وفي صفحة [46] ذكر مسألة كثر فيها كلام أهل العلم، وهو يتكلم في مسألة حد الخمر؛ فإن العلماء اختلفوا في حد الخمر في أمور: اختلفوا أولا: هل الأربعون التي جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حد أم تعزير؟ ثم اختلفوا فيمن تكرر منه شرب الخمر مرة أو مرتين والثالثة والرابعة، فما حكمه؟ هل يقتل أم يكتفى بجلده؟ وقبل أن أذكر قوله أقول: إن الترمذي رحمه الله ذكر حديث معاوية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} .
وقال الترمذي في آخر كتابه السنن في كتاب العلل في آخر السنن، قال: لم أذكر اتفق العلماء على ترك العمل به، إلا حديثين وذكر ثلاثة أحاديث، وقال بعضهم: تصل إلى أربعة، منها حديث ابن عباس في أن النبي صلى الله عليه وسلم {جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر} ومنها: هذا الحديث أنه قال: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} ذكره ابن القيم رحمه الله وقال: وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف الناس في ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث} وقيل: هو محكم، ولا تعارض بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام، وقيل ناسخة حديث عبد الله بن حمار، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله، وقيل: قتله تعزير بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحد، واستهان به، فللإمام قتله تعزيراً لا حداً، وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[ائتوني به في الرابعة: فعلي أن أقتله لكم]] وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معاوية وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم ".
ثم قال في آخر الكلام رحمه الله في صفحة [48] : " ومن تأمل الأحاديث؛ رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ والقتل إما منسوخ، وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتل واحد لينزجر الباقون؛ فله ذلك، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق ".
وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله -العالم المحقق المصري- في تعليقه على مسند الإمام أحمد، كلاماً طويلاً في تعزيز القول بقتل شارب الخمر فليرجع إليه في شرحه وتحقيقه للمسند.
وهذا يدل على فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإن من فقههم أنهم يقولون: إذا كثر وقوع الناس في جريمة ضاعفوا العقوبة عليها، بخلاف ما عليه الناس في هذا الزمان؛ فإن الناس إذا كثر وقوعهم في جريمة تساهلوا فيها، وفرطوا وقالوا: صعب أن نجلد الناس كلهم، أو نضربهم أو نسجنهم أو نقتلهم، فرأوا أن كثرة الوقوع في الشيء مدعاة إلى التخفيف، خلافاً لهدي الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان رأيهم أن كثرة الوقوع في الأمر مدعاة إلى المبالغة في العقوبة، حتى ينزجر الناس، وكما قيل: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.