الأمر الثالث: أن المسلمين واجهوا فيما مضى أشد مما واجهوا الآن على حسب ما تقوله التقارير والإحصائيات، فأنت مثلاً لو قرأت ما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وماذا فعل استالين في المسلمين، لوجدت أنه أجرى الدماء أنهاراً من أهل لا إله إلا الله، بل أقرب مثال يوغسلافيا نفسها -وهي موضوع حديثنا الليلة- ألم تعلم أنه هجَّر من المسلمين اليوغسلاف بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من ستة ملايين، أي أكثر من العدد الموجود الآن هجروا إلى تركيا وغيرها من البلاد، وأنه قتل منهم ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، ولم يطلق طلقة واحدة من المسلمين أنفسهم، ولم يتكلم خطيب واحد آنذاك عن تلك المجازر، ولا عن هذه الهجرة الجماعية، ولا عما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية.
إذاً ليس الفارق أن المسلمين الآن يواجهون ما لم يواجهوا من قبل، ولكن أن المسلمين الآن أصبح لهم عيون يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وألسن يتحدثون بها.
صحيح أن هناك جهوداً كبيرة لسمل تلك العيون وقطع تلك الآذان، ولمحاولة تدمير تلك العيون، ولقطع تلك الألسن، والحيلولة بينها وبين كلمة الحق، نعم ولكن العيون تبصر والأذان تسمع، والألسن تتكلم، والمسلمون الآن الفارق بينهم وبين المسلمين قبل ثلاثين وأربعين وخمسين وستين سنة، أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يكترثون لما يجري لإخوانهم في أي مكان، ولم يكن هناك من يتحدث عن أحوال المسلمين وما يلاقون، فكان يجري ما يجري في غيبة المسلمين، وفي ظل التجهيل الكامل والقطيعة الكاملة بينهم وبين إخوانهم.
أما اليوم فكل ما يجري إنما يقع على مرأى ومسمع من العالم كله، بما في ذلك المسلمون الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً وإدراكاً وتعاطفاً وتحمساً وغيرة، فأصبح المتكلم يتحدث بحرقة، والسامع يستمع بلهفة، وأصبح المسلم الذي يضرب في يوغسلافيا ينادي ويستغيث بالله عز وجل، ثم بإخوانه المسلمين في كل مكان من الأرض، ويدري أنهم يسمعون ويرون، وأنهم يعملون على نصرة إخوانهم بقدر ما يستطيعون.
إذاً هذا هو الفارق، فلا يصيبنك -يا أخي الكريم- شيء من اليأس أو القنوط، وأنت تسمع مثل هذه الأحداث، واعلم أن ما يجري للمسلمين اليوم جرى قبله الكثير الكثير، بل إننا نلمح بوادر تقدم كبير في الواقع الإسلامي الآن، تقدم في التجاوب، وما اجتماعكم هذا إلا نموذج للتجاوب، فإن هذا المجلس لم يقرر إلا البارحة في مثل هذه الدقائق، ولم يكن ثمَّ وقت كافٍ للإعلان عنه، ولا لدعوتكم إليه، ولم نكن نتوقع أننا نجد ولا شيئاً يذكر بالنسبة إلى هذا الجمع الحاشد الحافل الذي احتشد لسماع هذا الحديث، هذا مع أنكم سمعتم قبل ذلك عن أوضاع يوغسلافيا الكثير، فسمعتم في الدروس العلمية على مدى ثلاثة أسابيع، وسمعتم في المحاضرات والدروس والندوات الذي خصصت لهذا الموضوع، ثم ها أنتم أولاء تقبلون في مثل هذا المجلس وتملئون هذه الساحة الواسعة في هذا المسجد المبارك لهفةً إلى سماع الجديد والمزيد والمفيد، فجزاكم الله خيراً.
وهذا دليل مادي قريب على أن المسلمين الآن أصبحوا أكثر تماسكا، وأكثر استعداداً للتضحية، وأكثر حرصاً على سماع أوضاع إخوانهم وبشكل عام أن المسلمين اليوم يعيشون واقعاً أكثر حيوية وتجاوباً مع إخوانهم مما كان من قبل، وتجاوب المسلمين مع أوضاع إخوانهم في أفغانستان هو نموذج آخر، فإن الحرب الأفغانية دامت أربع عشرة سنة، وهذه مدة طويلة كانت كفيلة بأن تزرع في النفوس اليأس والقنوط، وتجعل الذين يقبلون على الجهاد الأفغاني دعماً بالمادة أو بالسلاح أو ذهاباً إليهم للمشاركة أن يتخلوا عنه، ولكن الواقع يشهد أن المسلمين لم يتخلوا عن الجهاد في أفغانستان وما كانوا أكثر حماساً للجهاد في أفغانستان منهم في شهر رمضان من هذا العام وما بعده؛ حيث بشائر النصر المبين تزف إلى المسلمين في هذا البلد وفي كل بلد.
فأقول أيها الإخوة لننظر إلى هذا الواقع من هذا المنطلق، ولندرك أن هذا يشبه إلى حد كبير ما تسمعونه من المنكرات التي تقع اليوم في المجتمع، فكثيرون يقولون: والله أصبحنا اليوم نسمع منكرات ما كنا نسمعها من قبل.
أقول: نعم هذا صحيح وأنا واحد من هؤلاء، لكن هذا ليس لأن المنكرات لم تكن موجودة، كلا، بل كانت موجودة ويوجد أضعاف أضعافها في الماضي، ولكن لأن كثيراً من المنكرات في الماضي كانت تتم في الظلام، وفي غيبة الرقيب وفي غفلة الناس، ولم يكن الناس يعرفون لمن يشتكون، ومن يخبرون، ومن يبلغون، بل ربما تجد أحياناً مؤسسات كبيرة، يقع فيها المنكر فلا يوجد من ينكره، ولا من يبلغ به، ولا من يخبر أهل العلم عنه، فلذلك مضت أمور كثيرة طافت على المسلمين وتمت في غيبتهم.
أما اليوم فكل ما يفعل أو ينشر في الصحف، أو يقال في المجالس أو يتم؛ حتى ولو كان عليه من التحفظات والسرية الشيء الكثير، فإنه بعد ساعات قلائل يصل إلى أسماع من يعنيهم إنكار المنكر، وأحياناً كثيرة يصل موثقاً بالصوت أو بالصورة أو بالوثائق التي لا تقبل الجدل إذ هي وثائق دامغة، ولذلك أصبحت المنكرات تعرف، ويسهل مقاومتها ومحاربتها والقضاء عليها.
أما في الماضي فكانت تقع دون أن يعلم بها أحد، أقول هذا الكلام لأننا بحاجة إلى أن يكون عندنا قدر من الثقة بمستقبل الإسلام، ووالله إننا كلما رأينا مزيداً من الضغط على الإسلام والمسلمين، ومزيداً من الحرب وجدنا في ذلك آية من آيات الله تعالى في النصر المبين للمؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] يقولون ذلك وقد أبطأ النصر عليهم وتأخر، وأصابهم ما أصابهم، وتحرقت قلوبهم، وتلهفت نفوسهم، فسألوا متى نصر الله؟ وهاهنا يأتيهم الجواب من الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] .