الأسلوب الثالث: هو أسلوب تأجيج النزاع القائم بين المسلمين، واستثماره وتوظيفه لخدمة أعداء المسلمين، والخلاف بين المسلمين أمرٌ قديم، والذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يقضوا على الخلاف الموجود في داخل الأمة واهمون! من غير الممكن -مطلقاً- أن نجمع الأمة على كلمةٍ واحدة في جميع الأمور، أصولها وفروعها، فلابد من الخلاف، لأنه إذا اختلف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرون بالجنة، فكيف يعتقد أحد أن أصحاب الدعوة وأهل الإسلام، في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، سوف يجتمعون على كلمة سواء في كل شيء؟ هذا لا يمكن أن يكون، لابد من وجود خلاف بين المسلمين، وهذا أمر يجب أن نسلم به، لكن هذا الاختلاف لا يعني التفرق ولا يعني التنازع والتناحر.
أعداء الإسلام يحاولون أن يستغلوا هذا الخلاف -الذي هو واقع لا محالة- يستغلونه لتحقيق مآربهم ومقاصدهم، فيصطادون في وسط هذا الجو، فكم من إشاعة أشيعت بين الدعاة إلى الله تعالى، وبين الصالحين من المسلمين ضد فلان، أو ضد الفئة الفلانية أو الطائفة الفلانية، أو أن فلاناً يريد بك شراً، أو قال عنك شيئاً، وحين تتحقق تجد أن هذا ليس له رصيد من الواقع، خاصة والنفوس -في كثير من الأحيان- تكون مشحونة بنوع من الحساسية، فإذا كان عندي حساسية ضد فلان؛ لأن له أسلوباً في الدعوة يختلف عن أسلوبي وطريقةً تختلف عن طريقتي، يكون عندي جو نفسي مهيأ لتقبُّل ما ينقل عنه، فإذا قيل لي: إن فلاناً يتكلم فيك ويغتابك ويسبك؛ سارعت إلى تصديق هذا الأمر، لماذا؟ لأنني أقول: الشيء من معدنه لا يستغرب، ليس ببعيد أن يتكلم عني فلان؛ لأنه يخالفني في الأسلوب والمنهج والطريقة والتعلم وما أشبه ذلك.
فالنفوس مشحونة ومستعدة لتقبل مثل هذه الإشاعات، حتى لو كانت كاذبة، وهذه فرصة للمنافقين وضعاف النفوس؛ لأن يندسوا في وسط المسلمين وفي وسط الدعاة، ويلوثوا هذا الجو الأخوي الطيب الآمن.
وقد يصل الأمر إلى التحريض، فيحرضون بعض الجهات الإسلامية على بعض، ويشغلون بعضها ببعض، وما ألذها على نفوس الكفار وأعداء الإسلام، أن يوفروا قوتهم وإمكانياتهم، ويجعلوا المسلمين ينشغلون ببعضهم ببعض، فما يبنيه زيد يهدمه عمرو، وما يكتبه صالح يمحوه إبراهيم، وهكذا يصبح المسلمون أحدهم يبني والآخر يهدم، كما قال الأول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم على سبيل المثال: في بعض البلاد الإسلامية يكتب أحد الدعاة كتاباً، يوضح فيه مسألة يعتقد هو أن من الواجب عليه أن يوضحها، ثم يوظف مجموعة كبيرة من الناس الذين يثقون به؛ لينشروا هذا الكتاب بين الناس، حتى يصل إليهم، فينشرونه في المساجد والمدارس والمراكز وفي كل مكان, وفي ذلك بذلوا جهداً كبيراً، في كتابة الكتاب وطباعته، وفي الإنفاق عليه، وتوزعيه وفي غير ذلك، بعد ذلك يسمع مسلمٌ آخر بهذا العمل، وهو يعترض عليه ويعتقد أنه ضار؛ فيجند مجموعة أخرى لأخذ هذا الكتاب من كل مكان يوجد فيه، وإتلافه والقضاء عليه، وهكذا يؤخذ الكتاب ويتلف ويُقضى عليه, فهذا الجهد كم ثمرته للمسلمين؟ لا شيء، بل أقل من لا شيء وهي السلبية؛ لأن الكتاب الذي تَعب عليه قد أتلف وانتهى ولم يستفد منه أحد، ولكن هناك جهود كبيرة من المسلمين من الطرفين ضاعت هباءً منثوراً.
وفى أحيان أخرى الأعداء لا يكتفون بمجرد التحريض، بل يساعدون بعض المسلمين على بعض، ولعلنا نذكر على سبيل المثال نماذج تاريخية، إذا كنت ذكرت لكم -آنفاً- أن عبد الله بن سبأ اليهودي المتمسلم - ابن السوداء - دخل الإسلام ليهدم من الداخل، فإنه استغل بوادر الاختلاف بين المسلمين في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبدأ بنشر الفتنة، فلمَّا جاءه خبر موت علي بعد فترة، رفض وقال: والله لو أتيتموني بدماغ علي في سبعين صرة ما صدقت، بل إنه حي وإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، وسوف يعود ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً ظلماً.
وبدأ يؤلب الناس ويدعوهم وينشر بينهم العقيدة المعروفة عقيدة الرفض، حتى أسس هذا المذهب الذي ظل -على مدار التاريخ- هدماً للإسلام.
كيف استطاع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه، أن يؤججوا الصراع بين المسلمين على رغم أن المسلمين كانوا على درجة كبيرة من الوعي؟ اندس بعضهم في جيش علي، واندس بعضهم في جيش معاوية، رضي الله عنهم أجمعين، فلما التقى مبعوث علي ومبعوث معاوية لكتابة الصلح، وكانت نفوس الصحابة رضي الله عنهم مستعدة جداً للمصالحة ورأب الصدع وخم الصف، أصبح الذين في جيش علي من أتباع ابن سبأ يتحرشون بجيش معاوية، والذين في جيش معاوية يتحرشون بجيش علي، حتى كان معاوية يقول: غريب أمر علي! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! ويقول علي: غريب أمر معاوية! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! وما زال هؤلاء يتحرشون حتى أنشبوا الخصومة والقتال بين المسلمين وحدث ما حدث.
أريد أن أوضح أن أعداء الإسلام -من المنافقين وغيرهم- يستغلون الخلاف بين المسلمين ويؤججونه، وقد يدخلون فيه ويستغلون عملاءهم في داخل الصف الإسلامي؛ لتأجيج الصراع بين المسلمين وإنهاك جسم الدعوة الإسلامية.