أما فيما يتعلق بالواقع: فإن هذه الجزيرة -بحمد الله تعالى- تحظى وتفرح اليوم، وتعلن سرورها بهذه الصحوة المباركة العارمة، التي قد أينعت وآتت أكلها بإذن ربها، هذه الصحوة في هذه الجزيرة ليست خاصة بالجزيرة ولكنها عامة، وإنما تتميز الصحوة في هذا البلد بأربع مميزات، لا تكاد توجد في أي بلد آخر إلا ما شاء الله.
الميزة الأولى: أنها سبقت تيار الفساد.
فإن البلاد الأخرى عم فيها الفساد وطم، وسيطر فيها العلمانيون والمفسدون والمنافقون، ثم استيقظ المؤمنون بعد ذلك فبدءوا من جديد، فكانوا مسبوقين بالفساد، وكأن فعلهم كان استجابة لهذا الفساد الموجود ورداً عليه.
أما في هذه الجزيرة؛ فإنها منذ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، وهي لا تزال تعيش في أوضاع -على سبيل الإجمال- جيدة، وتنتقل من خير إلى خير، ولا يزال العلم والعلماء، والدعاة وطلبة العلم، والحلقات والدروس العلمية فيها قائمة على قدم وساق، لم يمر بها خلال ذلك فترة ركود أو جمود، أو غفلة أو انهيار، أو تسلط الفساد والمفسدين عليها، وهذه نعمة كبيرة.
فالخير سبق تيار الفساد، ولذلك رأينا الفتيات -مثلاً- الملتزمات بالحجاب، واللاتي يلبسن القفازين في أقدامهن وأيديهن، وهذا مظهر، وأنا لا أقول أن هذا كل شيء وأن هذا هو الإسلام، لكن هذا مظهر يدل على الالتزام بالحجاب وعلى التدين، رأينا هذا قبل أن نسمع أصوات الأفاعي المنادية بتحرير المرأة بزمان طويل.
وهذا دليل على أن تيار الصحوة واتجاه الناس إلى الخير والإسلام؛ سبق تيار الفساد والعلمنة والتغريب في هذه البلاد، وهذه ميزة كبيرة ولا شك.
يتبع هذه الميزة ميزة أخرى وهي: أن هذه الصحوة في هذه البلاد هي من المجتمع وجزء لا يتجزأ منه، ليست الصحوة في هذه البلاد عبارة عن جمعية خاصة، أو فئة معينة، أبداً.
الصحوة هي المجتمع في هذه الأمة، وهي الناس الذين أعلنوا أنهم دائماً وأبداً مع هذه الصحوة، ومع الإسلام، ومع الخير، ضد كل دعوة تناوئ الدين وتحاربه.
ولذلك فالصحوة جزء من هذا المجتمع لا يتجزأ، بل هذا المجتمع كله يعيش صحوة كبيرة، بخلاف بلاد أخرى كثيرة، فقد تجد أهل الخير فئة محدودة منعزلة، وقد تجد الغلبة في المجتمع للشر وأهله، وقد يرمى هؤلاء بشتى التهم فيجدون من يصدق ما يقولون.
الميزة الثالثة -وهي أيضاً من ميزات الصحوة في هذه البلاد خاصة- هي: أنها سلمت من الغلو، فإننا نجد في كثير من البلاد أن الصحوة الإسلامية قد ابتليت ببعض الأطراف التي شذت عن القاعدة وغلت وزادت، وربما يكون ذلك بسبب الفساد الموجود في تلك البلاد، كما نجد -مثلاً- شيئاً من ذلك في مصر، أو نجد شيئاً من ذلك في الصومال، أو نجد شيئاً من ذلك في باكستان، أو في الهند، أو في الجزائر، أو غيرها، حتى إنه يوجد نماذج -وإن كانت قليلة- ممن يسمون حقيقةً بالمتطرفين، وهم فعلاً غلاة وإن كانوا قليلين.
والعدو يستغل هؤلاء، ويحاول أن يطلق لفظ التطرف ليشمل كل المؤمنين، حتى في هذه البلاد يحاول أن يرميهم بهذا اللقب الجارح، فيحاول أن يصف كل ملتحٍ يضع المسواك في جيبه، ويقصر ثوبه، ويتردد على المسجد، يحاول أن يصفه بأنه متطرف.
فلا علينا من الأعداء، وليقولوا ما شاءوا، فنحن لم نعبأ بهم يوماً من الأيام، ليقولوا عنا متطرفين، وليقولوا عنا أصوليين، وليقولوا عنا ما شاءوا، فقد عرفنا طريقنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم نعد نلتفت إلى ما يقولون عنا، بل العيب عندنا والذي يحزننا لو مدحونا، فلو مدحونا لكان هذا دليلاً على أننا فينا شيء يعجبهم ويرضيهم، وهم أعداء لا يرضيهم إلا ما يسخط الله عزوجل، فالذي يسرنا هو أن يذمونا.
لكن يوجد في البلاد الأخرى أناس قد يكون عندهم شيء من الغلو، أما في هذه البلاد ففي حدود ما أعلم؛ فإن الله تعالى حمى هذه البلاد وهذه الصحوة، وقد تجولت في كثير من مدنها ومناطقها، وجلست مع الشباب، فلم أر هناك ما يسمى بالتطرف.
صحيح أن الآراء قد تختلف، وقد يوجد الإنسان عنده شدة، وقد تختلف أساليب معالجة الأخطاء، ولكن ليس هناك غلو في حدود ما أعلم.
وأرجو الله عزوجل الذي حفظ هذه الصحوة، وهذه الأمة فيما مضى، أن يحفظها فيما بقي، فإن العدو يتربص الدوائر، ويحاول أن يجد ولو نموذجاً يسيراً حتى يعمم هذا النموذج، ويحاول أن يرمينا كلنا بمثل هذا الأمر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] .
ميزة رابعة: إن هذه الصحوة بنيانٌ واحد متصل بعضه ببعض، ليست شيعاً وأحزاباً، كما هي الحال في عدد من البقاع، تتحارب فيما بينها، وكل واحدة ترفع راية، فهذه الصحوة بنيان واحد متصل، يدور حول العلماء الكبار، وحول طلبة العلم، وحول الدعاة المعروفين المشهورين، وحول الخطباء الذين تستمع إليهم الأمة في كل جمعة، وحول الأئمة وأمثالهم ممن هم قادة الصحوة، وزعماؤها وأئمتها وموجهوها، وهذه نعمة كبيرة، فليست الصحوة شيئاً آخر غير الإسلام، وغير المجتمع المتدين، والعلماء، وطلبة العلم، كله أمر واحد لحمته وسداه، لا يمكن تمييز بعضه عن بعض.
وهذه كلها نعم يدركها العقلاء العارفون بأحوال الأمم الأخرى.