صحراؤها حمتها من كيد الغزاة

الميزة الثانية: أن أرض هذه الجزيرة الصحراوية جعلتها بمنجاة من كيد الغزاة.

فإن صحراء هذه الجزيرة ورمالها مقبرة للغزاة الذين يهمون بها منذ فجر التاريخ، فقد حماها الله عزوجل بصحرائها ورمالها الممتدة، وأرضها الواسعة، من كيد الغزاة المحتلين منذ فجر التاريخ إلى اليوم، كما أن الله عزوجل حماها بذلك من تأثير الحضارات المادية، فتأثير الحضارة المادية في الماضي والحاضر على الجزيرة هو أقل تأثيراً، ففي الماضي -مثلاً- كانت حضارة الفرس والرومان واليونان والهند والصين، ومع ذلك الجزيرة كانت بعيدة عن هذا كله لا تدري ماذا يدور في الدنيا! أما اليوم فمع أن الجزيرة -ولا شك- قد تأثرت بالحضارات المادية الموجودة، ووجد من أبنائها من يتأثر بحضارة الشرق فيدين بمبدأ الشيوعية -مثلاً- أو يتأثر بحضارة الغرب، فيرفع راية العلمانية، وينادي بفصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة، وعن المرأة، وعن الاجتماع، وعن الاقتصاد، وعن التعليم، وجعله محصوراً في المسجد.

فوجد هؤلاء ووجد أولئك، ولا تزال رياح الفساد والتغيير تهب على هذه الجزيرة من كل مكان، وهذا أمر لسنا نجهله بحمد الله، وينبغي أن نكون جميعاً على أن يكون هذا الأمر على بالنا، وألا نستنيم أو ننخدع بما نتكلم فيه.

ولكنني أقول: مع ذلك؛ إن من العدل أن ندرك أن هذه الجزيرة على رغم هذا كله؛ لا تزال هي أطهر بقعة في الدنيا، ولا تزال أنموذجاً فريداً من بين بلاد الدنيا.

ولو أردت أن أتحدث عن التميز الموجود الآن في الجزيرة لطال المقام، ولست أريد -كما ذكرت- أن أبالغ في مدح هذه الجزيرة ومدح أهلها والثناء عليهم، حتى كأننا لا نريد أن نصنع شيئاً، لا.

ليس بين أحد وبين الله عزوجل سبب إلا التقوى، فالقرشي والعربي وساكن الجزيرة وغير ساكن الجزيرة والأعجمي، كلهم في ميزان الله تعالى سواء قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وليس لنا بلد نقول هذا بلدنا، سواء آمن أم كفر، كلا! أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنا لك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني وميزة الصحراء في هذه الجزيرة أيضاً: أنها جعلت شعوب هذه الصحراء شعوباً قوية أبية جديرة، لا تحمل الضيم، ولا تقبل الذل، ولا ترضى به، ولا تعطي الدنية في دينها بحال من الأحوال.

إن في الشعوب التي نشأت في الصحراء، من القوة والشهامة والعزة والأنفة والكرامة أشياء كثيرة، ولذلك يقول الرافعي -رحمه الله-: إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد انظر هل أنت كذلك، أم لا؟! وانتهد، أي: وجد ونشأ.

إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد ليس كالمسلم في الخلق أحد ليس خلق اليوم بل خلق الأبد المسلم لا أحد مثله، خاصة حين يكون نشأ في هذه الصحراء، وتربى على القوة والرجولة والفتوة فيها، بعيداً عن ترف الحضارة وزخرفها والإغراء في لذاتها ومادياتها وشهواتها.

هذا محمد إقبال يناديكم، ويقول: أمة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من هو الذي قال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عز وجل} ؟ إنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعلى يد من تحقق هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟! لقد تحقق على يدي أمته وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من سواكم في حديث أو قديم أطلع القرآن صبحاً للرشاد هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ لا تقل: أين حضارة المسلمين، أين علمهم، أين تقدمهم؟! لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ وانظر الحمراء واشهد حسن تاج دولة سار ملوك العالمين نحوها طوعاً يؤدون الخراج دولة نقرأ في آياتها مظهر العزة والملك الحصين وكنوز الحق في طياتها دونها حارت قلوب العارفين أنتم يا شعب الصحراء، طالما كنتم جمالاً للعصور وجمالاً للتاريخ وجمالاً للأمم، تشرئب الأعناق عند ذكركم.

فكروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جمالاً للعصر وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر ينادي -رحمه الله- أن يكون في المسلم روح عمر من جديد، روح القوة والشجاعة والشهامة والحمية والأنفة وإباء الضيم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015