قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

فإن الله تعالى بين أن الصيام قد كُتِبَ وأُوجِبَ على من كان قبلنا من الأمم السابقة، من بني إسرائيل وغيرهم من أتباع الأنبياء والمرسلين، وليس بحتم أن يكون الصوم عندهم كالصوم عندنا بكل حال، وأن تكون الأحكام له هناك كما هي الأحكام له هنا، ولكن أصل الصوم مشروع في حق الأمم السابقة، كما هو مشروع في حق هذه الأمة، ومفروض عليهم كما هو مفروض علينا، وفي ذلك تعزيةٌ وتسليةٌ للمسلمين، وتصبير لهم على ما يَجِدونه من مشقة الصيام، وألم الجوع والعطش، وقد يصوم الإنسان في يوم شديد الحر، طويل ما بين الطرفين، فيصبر ويصابر ويكابد ألم الجوع والعطش صابراً لله تعالى، فيقال له: اصبر، فلستَ أنتَ أول مَن سلكَ هذا السبيل، ولا أول مَن صام، بل أنتَ من الأمة المختارة المصطفاة المجتباة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتي هي أفضل الأمم، وآخر الأمم وجوداً، وأول الأمم دخولاًَ الجنة، فحقيقٌ بك أن تصبر، وأن تلتزم، وأن تطيع الله تعالى، وأن تنفذ أمره، كما نفَّذ الذين من قبلك من الأمم الذين كانوا أقل منك شأناً، وأبعد منك رتبة، ولكنهم فعلوا ما أمرهم الله تعالى به.

ولهذا لما أمر الله تعالى يحي بن زكريا -كما في: السنن، وهو حديث صحيح أمره أن يأمر بني إسرائيل كلمات، فتأخر فيها، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى أمرك أن تأمر بني إسرائيل بهذه الكلمات، فإما أن تقوم بها أنتَ، وإما أن أقوم بها أنا فقال له يحي: إنكَ إن قمتَ بها دوني خشيتُ أن يصيبني من الله تعالى عذاب، فقام يحي، فنادى في بني إسرائيل، فجمعهم في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد بهم، ووقفوا على الشرفات، فقال: إن الله تعالى يأمركم بكلمات ثم ذكرها، وكان منها: إن الله تعالى يأمركم بالصيام، وإنما مَثَل الصائم كمَثَلِ قوم معهم صرة فيها مسك، وإن خلوفَ فمِ الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} فهو أمر وُجِبَ على من كان قبلنا، وأُوْجِبَ علينا في شريعة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وحقيقٌ بنا أن نكون أقوى امتثالاً، وأصبر وأصدق في امتثال أمر الله -عزَّ وجلَّ- لأننا من هذه الأمة المختارة.

ثم قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] هو: ترسيخ لقلب الإنسان، وتدعيم له وتثبيت، وإشعار له بمعنى التعبد لله تعالى، ولهذا جاء في حديث رواه ابن أبي الدنيا، وهو حديث حسن، عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع قومه في سرية، فسمع هاتفاً يهتف: من صام لله تعالى في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله -عزَّ وجلَّ- أن يُرويَه يوم القيامة، قال أبو بُردة: [[فكان أبو موسى -رضي الله عنه وأرضاه- يتحرى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان من الحر، فيصومه لله تعالى]] {صوموا يوماً شديد الحر لحر يوم النشور} والجزاء من جنس العمل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015