وبعض الإِخوة يَعتبون عليَّ، ويقولون: لماذا تحرض النساء على الاستمرار في الدراسة-مثلاً- أو على مواصلة العمل، وخاصة من المتدينات؟
وصلى الله عليه وسلم أقول لإخوتي وأخواتي: إننا في مجتمعٍ لا ننفرد نحن بصياغته وصناعته؛ بل هو مجتمعٌ فيه صناع كثيرون، ذوو عقول شتى، ومذاهب مختلفة، وآراءٍ متباينة؛ بل ونظرياتٍ واتجاهاتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- كما يقال- فإذا توقفت الملتزمة عند حدٍ معينٍ فغيرها لا يتوقف.
ومعنى ذلك أننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة -مثلاً- أو ترك مجالات العمل والتأثير؛ فإننا سمحنا لكل الفئات، وكل الطبقات، وكل الاتجاهات التي لا تسمع لنا أصلاً- لها بأن تنمو وتتوغل وتتغلغل في المجتمع، ووضعنا سدًّا منيعًا أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم بشكلٍ جيدٍ في ضبط المسيرة، أو يساهم في تحجيم الشر والفساد، ولا أعتقد أن ثمة خدمةً يمكن أن نقدمها للعلمانيين بالمجان أكثر من هذه الخدمة، ولا توجد خدمة يمكن أن نقدمها لأصحاب النوايا السيئة وصرعى الشهوات أعظم من هذه الخدمة، وليس هناك أعظم من أن تصبح التجمعات النسائية بجامعاتها وبكلياتها ودراساتها ومعاهدها وندواتها وأعمالها خالية من الفتاة الملتزمة، التي ترفع راية الدين، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
وأقل ما يمكن أن تقوم به تلك الملتزمة هو: أن تشعر المجتمع بما يجري داخل تلك المجتمعات النسائية، وما يكون وراء الكواليس، ووراء الستار.
إنَّ العلماء والدعاة-بل والعامَّة- أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: إنه يجري في أوساط النساء كيت، وكيت، وكيت، فأين دوركم؟ وما مجالكم؟ وأين هي أصواتكم؟ فإخبارهم بما يحصل ويحدث داخل تلك الأسوار هو أقل ما يجب.
ومع ذلك أقول أيها الإخوة وأيتها الأخوات: إنني أعتقد أن زمن الشكوى المجردة قد انتهى، أو كاد أن ينتهي، وأعني بذلك أن دور الخيرين والخيرات لا يجوز أبداً أن يتوقف عند مجرد رفع الشكاوى للجهات المختصة: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وأقول: إن هذا الدور الذي يقف عند مجرد الشكوى فقط قد انتهى، أو كاد أن ينتهي لأسبابٍ أهمها: أولاً: إنه لو كان هناك إصرار من القمم على منع رياح التغيير والفساد لأحكموا غلق النوافذ، والمسئولون الصغار دائماً وأبداً يتلمسون مواقف الكبار، وردود فعلهم، ومدى حزمهم، أو تساهلهم، ولذلك يقال في النكت والطرائف: إذا أردت أن تعرف مدى قوة المسئول في بلدٍ؛ فانظر في سلوكِ البقال، فإذا صار بينك وبين البقال مشاجرة، فقلت له: إن فعلت وإلا رفعتك إلى مدير الشرطة، أو إلى المحافظ، أو إلى الأمير، فإن وجدته اضطرب وارتبك وخاف فاعرف أن هذا دليل القوة والعدل، وأن سيف الحق صارم، أما إن قال لك: ارفع وافعل ما شئت، وأمامك هيئة الأمم المتحدة، وأمامك وأمامك فاعلم أن الأمر دليلٌ على التراخي.
ثانياً: ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحالٍ من الأحوال، فنحن -الآن- في عصرٍ صار للجماهير فيه تأثيرٌ كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صورة العُزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي، بعدما قام الإنقلاب الشيوعي الأخير الذي فشل، ما زالت صور أولئك العزل يتدافعون في وجوه الدبابات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف حتى استطاعوا، وهم لا يملكون ولا رصاصة واحدة أن يقفوا في وجه ذلك الانقلاب ويفشلوه، ما زالت هذه الصورة ماثلة للأذهان، وقد رآها العالم كله حيةً في شرقه وغربه.
فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] والإنقسام إلى حق وباطل، ومهتدٍ وضال، ومؤمنٍ وفاجر، هذا أمر لا خيار فيه، ولا حل له، ولا يعني أن هناك سعياً إلى تمزيق المجتمع، بل هو سعي إلى تسمية الأمور بأسمائها الحقيقة، ووضع الأمر في نصابه.
فإذا كان المجتمع منقسماً -وهذه حقيقة- فيجب أن يمارس الخيرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية.
والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهون منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصةً إذا لم يكن معها غيرها.
لكن يستطيع الأخيار أن يمارسوا دورهم كغيرهم.
فكما أن تلك الفتاة المنحرفة المشبعة بأفكار الغرب واتجاهاته، استطاعت أن تصل إلى موقع التأثير والمسئولية، وغيرت عقول بعض بناتنا وفتياتنا، وأثرت عليهن، فكذلك تستطيع الفتاة الطيبة الصالحة المهتدية أن تكون في الموقع نفسه، وليس هناك حواجز -بحمد الله- كبيرة تقفُ في وجهها، وإن وجدت حواجز فالتغلب عليها ممكنٌ، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم حيلةً توصله -بإذن الله تعالى- إلى ما يريد.
الأمر الثالث الذي يجعلني أقول: إن مجرد الشكوى لا يكفي: هو أن من غير الممكن اليوم أن نقول للناس: أغلقوا الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات النسائية، فإن هذا أمرٌ غير ممكن، وهو أيضاً غير مطلوب، فلا بد للناس من كل هذه الأمور، وهي مؤسساتٍ ارتبطت بحياة الناس -الآن- بدون شك، فلم يبق إلا أن يرسم لهذه المؤسسات والمدارس والمستشفيات الإطار الشرعي الصحيح، والشرعُ جاء ليضبطِ كل شيء، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الاسراء:12] ولم يبق إلا أن تشجع الفاضلات على إدارتها، أو على الأقل على المساهمة فيها، ومزاحمة الاتجاهات الأخرى غير المهتدية.