إذاً: الصراع يكون أولاً: بالجدال بين الحق والباطل، أي: والصراع بالكلمة، والصراع بالفكرة، الصراع ومن خلال الكتاب والدرس والمحاضرة، ومن خلال المناظرة، ومن خلال الدعوة، فهذا هو صراع، ولذلك الله تعالى ذكر في الآية: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الكهف:56] إشارة إلى أنه جدال مستمر، فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار والدوام، فدائماً الكفار يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويستهزئون بالآيات وبالنذُر، فهذا جزء من الصراع بين الحق والباطل، لكن هذه المجادلة نتيجتها أيضاً مقررة في القرآن فلا داعي إلى أن تتعب ذهنك وعقلك في معرفة النتيجة، لكن تعب ذهنك وعقلك أو في مجادلة أهل الباطل، وفي الدعوة إلى الحق، لكن نتيجة لا تتعب وراءها، لأنها مقررة: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] النتيجة هي قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] .
فالنتيجة هي أخذ الله تعالى للمجادلين بالباطل، فلا تغتر بكثرتهم، ولا تغتر بهيلمانهم، ولا تغتر بالمقالات الطويلة العريضة، والكتب الضخمة، والأجهزة المسخرة للباطل، فلا تغتر بها، لأن في انتظارها جميعاً: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] وقد ضرب الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة في كتابه فذكر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] فهي تدل على الخضرة، الظل، الثبات، البقاء، العمق، الارتفاع، والخير، هذه هي الكلمة الطيبة، فهي مثل للحق والكلمة الخبيثة: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] فهي غير نافعة ولا خضراء ولا مثمرة ولا طويلة ولا عميقة ولا ممتدة مالها من قرار، ولذلك قبل دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
إذاً: الخصومة أولاً تكون بالكلمة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مجالات وميادين أخرى قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] لا حيلة يا أخي! لا تتصور أن البشرية كلها سوف تسلك الطريق، إنما لابد من الخصومة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإسلام والكفر.
والخصومة بكل صورها تبدأ من الكلمة، وتنتهي بالمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ، الخصومة لابد منها، فالحرب نموذج من الخصومة، وهي أرقى وأعلى وآخر صور المدافعة بين الحق والباطل، ولهذا الله تعالى ربط قضية الحرب بين المؤمنين والكفار بالمدافعة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] إذاً أذن لهم بالقتال وبالجهاد لأنه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] .
إذاً تبدأ بالمدافعة الفكرية والدعوية والعقدية، وتمر بمراحل كالمدافعة الاقتصادية -مثلاً- والمدافعة الاجتماعية للهيمنة على مؤسسات المجتمع، ومدارسه، وأجهزته، وأجهزة إعلامه، القوة الموجودة فيه، والتأثير في الناس، وتنتهي بالصراع في ميادين الحرب والقتال بين المؤمنين والكفار.
ويقول ابن خلدون رحمه الله عن الحرب كنتيجة أخيرة من نتائج الصراع الفكري -إن صح التعبير- يقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ أن برأها الله تعالى، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، يتعصب كل منهم لأهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع؛ كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة وإما منافسة، أو عدوان، وإما غضب لله تعالى ولدينه، وإما غضب للمُلْك وسعي في تمهيده " انتهى كلام ابن خلدون.
فالحرب جزء من الحياة البشرية لا تنفك عنها بحال، ومغرقون في السطحية أولئك الذين يتصورون أو يعتقدون أن بالإمكان الاقتصار على الحوار، والحديث الهادئ، والمجادلة بالحجة، وأنه لا حاجة إلى القتال، وأننا يمكن أن نحول العالم إلى عالم مسلم من خلال الكلمة الهادفة.
سطحية مفرطة، وجهل بالدين -أيضاً- هل تتوقعون أن طبيعة الإنسان تتغير؟ كلا! هل حقائق التاريخ تتغير؟ كلا، هل طبيعة الكفر تتغير؟ الله تعالى يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فالكفر قرين الظلم دائماً وأبداً، هل تتغير طبيعة الكفر والظلم؟ الكلام في هذا يعني أختصره، وقد سبق أن ذكرت طرفاً منه في محاضرة (حي على الجهاد) وربما أطنبت في هذه النقطة بالذات، وعلى كل حال فإن الله تعالى قرر هذا وبينَّه أتمَّ بيان بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] .
فالقتال والجهاد والحرب بين الإسلام والكفر قائم ولابد، وقادم أيضاً.