التنطع في استحضار النية

بخلاف أقوام من المتأخرين أصبح الواحد منهم يحاول أن يتكلف النية تكلفاً يخرج بها عن حدود المشروع إلى نوع من الهوس المرفوض.

وأذكر أن الإمام أبا حامد الغزالي -غفر الله لنا وله ورحمه الله- في كتاب إحياء علوم الدين ذكر بعض الطرائف والقصص من أخبار هؤلاء، وفي الواقع هو ذكرها على سبيل الاستحسان، ولكنها في الواقع تذكر على سبيل التندر، لا على سبيل الاستحسان.

فمما ذكر من هذا الباب: أن بعضهم كان إذا أراد أن يأكل قبل أن يأكل اللقمة يقول: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، فإذا أراد أن يأكل الأخرى قال: نويت أن آكل هذه اللقمة لله، ثم يضعها في فمه، وهذا لا شك تكلف شديد.

وذكر عن آخر أنه قال لزوجته: هات المشط.

يريد أن يسرح شعره -طلب من زوجته مشطاً- فقالت له: والمرآة؟ -وأعطيك المرآة أيضاً-؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والمرآة.

فقال له رجل ممن حوله يا فلان، لماذا توقفت قليلاً قبل أن توافق على أن تحضر زوجتك المرآة؟! قال لم أكن قد هيَّأت في قلبي نية لطلب المرآة، فلما عرضتها علي انتظرت النية، فلما هيأ الله لي النية في طلب المرآة طلبتها، وهذا هو والله عين التكلف.

وحكى الغزالي -أيضاً- أنه لما مات الحسن البصري، لم يحضر محمد بن سيرين جنازته -هكذا يقول- فقيل له: لماذا لم تحضر جنازة الحسن البصري؟ قال: لم تتهيأ لي نية.

ونقل عن رابع أنه قال: أنا منذ شهر أجاهد نفسي في إحضار نية لعيادة رجل، فلم تصح لي النية بعد.

يعني رجل مريض منذ شهر ما زاره، لماذا ما زرت جارك المريض يا فلان؟ قال: والله أنا لي منذ شهر أجاهد نفسي على أن أوجد نية صالحة لزيارته، لكن حتى الآن ما حصلت النية.

هذا تنطع في العبادة، وتنطع في النية، ولا شك يترتب على هذا ترك الأعمال الصالحة؛ بحجة أنه ما توفرت النية بعد.

إذاً النية ليست حاجة يجب أن تستدعى -هكذا- عند الحاجة إليها، النية أمر ينبعث من القلب، فقلب المؤمن المرتبط بالله تعالى آلياً تكون أعماله المباحة في الغالب مقصود بها وجه الله تعالى، فمتى ما استحضر هذا الأمر في قلبه كفى، ولا يحتاج إلى أن يتنطع الإنسان في إحضار النية من أجل هذه الأكلة، ومن أجل هذه الشربة، ومن أجل هذا النومة، ومن أجل هذه الزيارة، ومن أجل هذه الكلمة؛ لأن هذا لا شك هو عين التكلف والتنطع الذي نهينا عنه.

ومن طريف ما يروى في ذلك: أن رجلاً من الصالحين لبس قميصاً مقلوباً على عكس ما يلبس، فكان جيب هذا القميص إلى الوراء -مثلاً- ومشى بدون علم، وهو غافل، فلما كان في عرض الطريق استوقفه بعض المارة وقالوا له: يا فلان، قميصك مقلوب.

فنظر فوجد الأمر كما ذكر، فهم ليخلع القميص حتى يقلبه، ثم تراجع عن ذلك، وقال: إنني لبست هذا القميص بنية لله تعالى، فلا أريد أن أغير هذه النية فأقلب القميص بنية للناس، وترك القميص على حاله، ولا شك أن هذا العمل -كما ذكرت- هوس مرفوض عند من يعقلون أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنية لا تحتاج إلى هذا التكلف والتنطع -كما سيأتي- لا في العبادات، ولا في غيرها.

إذاً السؤال الذي يمثل الخطأ الثالث: هو أن بعض الناس يتصورون أن النية لا تكون إلا في العبادات، والواقع أن النية تكون في العبادات كما تكون في الأمور المباحة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015