حين نتكلم عن المعيشة الضنك والعقوبات الإلهية، ونضرب لكم مثلاً بمرض الإيدز كما قلت قبل قليل، يبرز سؤال يطرحه كثير من الناس ويقولون: كيف نجت الحضارة الغربية القائمة اليوم من طائلة السنة الكونية؟ وأقول: إن الحضارة الغربية حضارة منحرفة في عقيدتها، قد كفرت بالله تعالى وتنكرت له، فهي منحرفة في تصورها عن الإنسان وقيمة الإنسان، منحرفة في تصورها عن الحياة وهدفها وسر وجودها، منحرفة في سلوكها، وفي نواحي الحياة كلها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والفنية، فهي انحراف علمي وعملي شامل لكل شيء، إنها حضارة مشركة كافرة، والإنسان فيها جعل من نفسه إلهاً من دون الله عز وجل، وجعل المال إلهاً، من دون الله، وجعل الهوى إلهاً يعبد من دون الله، وجعل المادة إلها وجعل الآلة إلهاً، وجعل الإنتاج إلهاً، بل جعل الجنس إلهاً، فقد كفروا بالله تعالى وعبدوا كل شيء، ولهذا من كفر بالله عبد غير الله، فالإنسان لا بد له من عبودية قال تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] فإذا ترك الإنسان عبادة الله تعالى، سلط الله عليه أن يعبد غير الله، حتى قد يعبد الإنسان نفسه، وقد يعبد الجنس، وقد يعبد الحيوان، كل ذلك منهم هروب من عبادة الله تعالى وطاعته، فلا بد أن تحل عليهم عقوبة الله تعالى، ولا بد أن تنتفض وتنتصر الفطرة الحقة التي فطر الله الناس عليها، ولا بد أن يؤدي الغرب ضريبة انحرافه العميق البعيد، وسوف تكون بالتأكيد هذه الضريبة ضريبة فادحة قاصمة مدمرة! وإذا كان الإنسان الغربي -مثلاً- قد أدى جزءاً من هذه الضريبة من أعصابه وبدنه، من عافيته وصحته، من سعادته وطمأنينته وسرور قلبه، من مواهبه وخصائصه وعقله، ومن دنياه وآخرته، إذا كان أداها نقصاً في المال، ونقصاً في النسل يهدد بالانقراض، ونقصاً في الاهتمامات والطموحات، فإنه بالتأكيد سوف يؤديها على مستوى الحضارة كلها انهياراً متسارعاً لا يقف في طريقه شيء.
ولكن هذا الانهيار لا يجب أن يكون بالضرورة كانهيار الأنظمة الشرقية في لحظة واحدة.
إننا نجد أن أجداد هؤلاء ومن ورثوا عنهم الحضارة من اليونان والرومان، مروا بالتجربة نفسها.
فمثلاً كانت العاهرات والفاجرات في حضارة اليونان تتبوءان مكانة عالية رفيعة، وقد وصل حب الجمال عندهم إلى درجة كبيرة، حتى جعل في نفوسهم اضطراباً واضطراماً وشهوة لا تتوقف عند حد، فصاروا مثل الذي يشرب من البحر لا يمكن أن يروى أبداً، حتى صنعوا التماثيل العارية يتفننون في صنعها، وينظرون إليها ويتلذذون بها.
ثم تبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، فصاروا لا يرون في الفواحش غضاضة يلام المرء عليها أو يعاب بها، بل إنهم حرفوا دينهم وغيروه وبدلوه حتى يتوافق مع هذا الانحراف الخطير الذي بلوا وافتتنوا به، ثم ظهرت الغريزة البهيمية عندهم بانتشار سوءة قوم لوط انتشاراً كاد يأتي على الأخضر واليابس، ورحبت بذلك أديانهم وأخلاقهم أيضاً فحرفوا الأخلاق والأديان حتى تتوافق مع هذا.
وهذا كله نجد اليوم حرفاً بحرف يقع في بلاد الغرب، فقد وجدت عندهم أنظمة وقوانين تبيح كل ألوان الفساد الجنسي والإباحة الجنسية، ثم سقطت دولهم وتهاوت حضارتهم.
وبعد هذا فالتاريخ اليوم شاهد بأن اليونان لم يكن لهم من المجد والرقي نصيب بعد ذلك أبداً إلى يوم الناس هذا، ثم جاءت الحضارة الرومانية، وكانت تهزأ بالدين في المسرح على حين تمارسه في المعبد، ففي الوقت الذي تعبد الله تعالى في معابدها فيما تزعم وتدعي، كانت تقيم التمثيليات والمسرحيات التي تهزأ بالدين وتهزأ بالله تعالى والرسل والأنبياء، ومع الأسف هذا هو الأمر يمارس اليوم في طول بلاد الإسلام وعرضها، سواء من خلال المسرحيات والتمثيليات التي جُلبت من بلاد الكفر، أم التي مارسها وقام بها أناس كانوا مسلمين يوماً من الأيام، ولكنهم انسلخوا عن هذا الدين وصاروا يهزءون ويسخرون به وبأهله.
المهم الحضارة الرومانية كانت تهزأ بالدين في المسرح في حين أنها تمارسه في المعبد، وقد وصلت من غلوها في القوة وتسلطها إلى شيء كبير، واستغلت الأمم كلها لمصلحة وطنها القومي فقط، وضخمت اللذات الحسية وسعت وراءها، ثم صار ما صار من انهيار هذه الأمم.
الأمة الغربية والحضارة الغربية اليوم، هي -أيضاً- آيلة إلى الزوال والفناء إن عاجلاً أو أجلاً، ومعالم الزوال والفناء بدأت تبرز ملامحها عندهم، ويكفي أن أقول لكم: إنه وقع في يدي أمس كتاب اسمه المسلمون قادمون، ألفه روائي بريطاني اسمه انطوني برجس، وبرجس هذا يتكلم في هذا الكتاب عن الخوف من الإسلام، من خلال مسرحية يصور فيها الإسلام وقد اكتسح بلاد الغرب وبريطانيا وغيرها، وطبعاً لا يصور الإسلام الحق، لكنه ويصور الإسلام الموجود اليوم، ويصور الانحراف الموجود عند المسلمين اليوم، وقد امتد إلى بلاد الغرب، وانتصر المسلمون واكتسحوا ذلك العالم.
إذاً: الخوف من الإسلام لم يعد هاجساً في التقارير السرية الأمنية التي تتناقلها أجهزة الاستخبارات الغربية، بل تعدى ذلك إلى أن أصبح مادة يتناولها الأدباء والشعراء والكتاب والروائيون وغيرهم، فهم يدركون فعلاً أن حضارتهم إلى زوال وإلى فناء، وأن الإسلام هو البديل، ونحن نقول هذا سيكون بإذن الله تعالى، وعندنا من الأدلة على ذلك الشرعية، والواقعية، والتاريخية الشيء الكثير.