كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها قائمة بأمر الله, وهذه من أبرز خصائصهم، أنهم ليسوا يعيشون لأنفسهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأولادهم فحسب, ولا لتجاراتهم وشركاتهم ومؤسساتهم، وإن كانوا كغيرهم يريدون ذلك ويحتاجون إليه, وهم أيضاً مطالبون بأن يضربوا بسهم فيه, لكنهم يعيشون لأكبر من ذلك, يعيشون للأمة كلها, يعيشون للجهاد، يعيشون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, يعيشون للدعوة إلى الله عز وجل, لذلك -وهذا سر خطير يجب أن نتنبه له- كانوا هم سبب بقاء الأمة ودفع العذاب عنها، كما قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116-117] , تأمل لهذا النص القرآني العظيم: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] من هم أولو البقية؟ أولو البقية في هذه الأمة هم الطائفة المنصورة؛ لأنهم هم الذين ينهون عن الفساد في الأرض ويرفعون الراية، ويخطون الطريق, هم أولو البقية, لذلك لما ذكر الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود:116] عقب عليه في الآية التي بعدها في قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فهذه سنن إلهية, ووعود ربانية، يجب أن نؤمن بها، كما أننا نؤمن بما نرى أو نسمع أو نحس بحواسنا, يجب أن نؤمن أنه ما كان الله عز وجل ليهلك القرى، والمدن، والدول، والشعوب، والأمم، وأهلها مصلحون, لاحظ ما قال: صالحون! لا, ولم يقل: أهلها مسلمون, ولا عابدون، وإنما قال: مصلحون ولأَمْرٍ مَا عبر الله عز وجل هاهنا بالإصلاح لا بالصلاح, لأن المدار على وجود المصلحين, بمعنى أنه لا يمكن أن تخلو أمة من الأمم من عوامل الفساد والهدم والتخريب, سواء من صرعى الشهوات، أو من صرعى الشبهات, الذين يعملون فيما وسعهم لتدمير الأمة، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجد مثلاً المنافقون، الذين يكيدون في الليل والنهار ويتتبعون عورات المؤمنين, ووجد -أيضاً- بعض الذين يقعون في المعاصي والشهوات، فيقع أحدهم في زنا، أو سرقة، أو شرب خمر، أو تخلف عن جهاد، أو ما أشبه ذلك، لكن كانت الغلبة والقوة والتمكين لأولي البقية من الصالحين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, الرافعين لراية الجهاد والدعوة, لذلك أنجى الله الأمة، ونقلها من نصر إلى نصر ومن تمكين إلى تمكين، ومن عز إلى عز.
وهكذا تظل الأمة محفوظة، ما دام فيها طائفة منصورة، ينهون عن الفساد في الأرض, فإذا زالت هذه الطائفة حق أمر الله تعالى على الأمة.
متى تزول هذه الطائفة؟! زوال هذه الطائفة له حالتان: 1- زوال جزئي: بمعنى تزول هذه الطائفة من مكان، مثلاً: دولة من الدول, سُلِّط عليها الظالمون، والطاغون والعلمانيون، فساموا المسلمين سوء العذاب, وزجوا بهم في غياهيب السجون, وسيطروا على أجهزة الإعلام والتعليم، والمناهج، والأوضاع الاجتماعية والسياسية, ولعبوا بمقدرات الأمة, فأصبح الخيرون ما بين شريد وطريد، وقتيل وأسير, هنا يمكن أن نقول: إن هذه الدولة، قد حق عليها عذاب الله عز وجل؛ لأن الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، قد فقدت منها, وهذا زوال جزئي، في دولة معينة، ورقعة معينة.
2- زوال كلي: وهذا يستحيل أن تخلوا الأمة من وجود هذه الطائفة المنصورة، إلى أن يبعث الله الريح الطيبة في آخر الزمان, فتقبض أرواح المؤمنين، ثم تقوم الساعة, لذلك فإن من حكمة الله عز وجل أن الساعة لا تقوم إلا بعد أن يرسل الله تعالى ريحاً طيبة كريح المسك، مسها مس الحرير, فتقبض أرواح المؤمنين المجاهدين -الطائفة المنصورة- بكل سهولة ويسر, وينجيهم الله تعالى من معاناة الشدائد والأهوال, ومشاهدة العلامات الكبرى، ورؤية الزلازل والأهوال، التي يراها الناس عند قيام الساعة, فرحمة بهم يبعث الله تعالى تلك الريح، فتقبض أرواحهم، فإذا ماتوا هنا خلت الدنيا من الطائفة المنصورة، فحق عليها أمر الله فدمرها تدميراً.
إذاً: السر الذي به بقاء الأمة وبقاء الدولة هو وجود الطائفة المنصورة، التي تقوم بأمر الله عز وجل, ومن جانب آخر تستطيع أن تقول: إن السر الذي يحفظ الله تبارك وتعالى به الدول هو الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فمتى تخلت الدولة أو الأمة عن ذلك سلّط الله عليها الأعداء, ولو كان هؤلاء الأعداء شراً منها، فقد يهلك الله الظالمين بالكافرين, أو بمن هم أظلم منهم وأفسق وأطغى.
لكن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة, إنما يقوم بها ويتولى كبرى مهمتها أفراد الطائفة المنصورة, لهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تبارك وتعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها -يعني صغر له الأرض وقربها وأظهرها له، فرأى النبي مشرقها ومغربها- وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها} وهكذا امتد ملك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أكثر مما امتد في جهة الشمال والجنوب, وهذا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تشهد بذلك الوقائع التاريخية: {وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض -يعني ملك كسرى وقيصر- وإني سألت ربي عز وجل ألا يهلك أمتي بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن الله عز وجل قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد, ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة} لا يهلك هذه الأمة بعذاب الاستئصال، الذي يأتي عليها ويدمرها عن آخرها! فالإسلام باقٍ نزل ليبقى, وهذه عقيدة يجب أن تستقر في أنفسنا: {ولا أهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً} يعني: تسليط العدو الخارجي، اليهود، النصارى، الشيوعيين، المجوس، لا يكون إلا بعد أن يدب الخلاف في داخل الأمة، ويقتل المسلم أخاه المسلم، ويتلاقى المسلمان بسيفيهما، ويسبي المسلم أخاه, فحينئذٍ يسلط الله تعالى عليهم عدواً من خارجهم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما ذكر هذه الوعود الإلهية قال: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين} وهذا نموذج من الغربة، التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها سوف تحصل لهذه الأمة، وهي الأئمة المضلون، الذين يستخفون بهذه الأمة، ويضحكون بعقولها، من خلال وسائل الإعلام, ومن خلال طرائقهم في التضليل والخداع، وقد تجلت لنا في هذا الوقت أكثر مما تجلت في أي وقت مضى, ورأينا كيف يضحك هؤلاء المضللون المضلون، ليس بعقول السذج والبلة والمغفلين والصبيان، لكن بعقول الرجال الكبار، وبعقول من قد يكونون أحياناً من الدعاة العاملين: {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين, وإذا وقع السيف فلا يرفع إلى يوم القيامة، ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام -يعني فئات وجماعات- من أمتي الأوثان} ثم قال صلى الله عليه وسلم، بعد هذا الغربة كلها، أئمة مضلون, وأناس لحقوا بالمشركين، ذهبوا إلى ديارهم وصاروا معهم يقاتلون معهم، أو ينصرونهم، أو ما أشبه ذلك {وحتى تلحق فئام من أمتي بالمشركين} أي: في ديارهم ومرابعهم وأماكنهم: {وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} سواء كانت الأوثان المادية كاللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى, أو الأوثان المعنوية التي هي عبارة عن أشخاص من لحم ودم، كما كان يقول الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله: أمتي كم صنمٍ مجدته لم يكن يحمل طهر الصنمِ! فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهمِ بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء، التي ستحدث للأمة قال: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} فبيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أموراً: 1-أنه مهما وجدت الغربة فالطائفة المنصورة باقية لا تزال إلى قيام الساعة.
2-بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق, أنه مهما أصاب الأمة من عوامل الضعف والانحراف وأن بعض الطوائف من الأمة لحقت بالمشركين, وطوائف أخرى عبدت الأوثان, وطوائف ثالثة سارت عرضة للتضليل الإعلامي, فمع ذلك كله فإن الأمة لا يمكن أن يأتيها عذاب يستأصلها على آخرها, بل لا يزال فيها من يرفع راية الحق، ويدافع الظلم والظالمين, ويحفظ الله تبارك وتعالى بهم الأمة من الاستئصال والهلاك التام.
إذاً أبرز ميزة لهذه الطائفة كما ذكرت، وهي الميزة التي تميزت بها، واختصت بها، وعرفت بها, هي أنها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالنيابة عن الأمة كلها, لذلك قال الإمام ابن تيمية في مواضع من كتبه وبالأخص في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم بعد أن ذكر احتمال أن توجد الجاهلية في مكان معين، أو في أمر معين، أو في شريعة معينة, قال: فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة منصورة, وقال في موضع آخر: فأما بقاء الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة فلا يكون هذا.
إذاً لا يمكن أن تستحكم الجاهلية في الأمة كلها, ولا يمكن أن يبقى الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل قيام الساعة.
وبهذا نعلم أنه حينما يعبر كثير من المفكرين الإسلاميين في هذا العصر "جاهلية القرن العشرين" ينبغي أن نقيد ذلك بأن المقصود جاهلية زمان ومكان معين,