الخاصية الثالثة: أنها المجددة للدين في هذه الأمة

هذا أحد المعاني في حديث ثوبان السابق، أنه صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر الأئمة المضلين ذكر الطائفة المنصورة, وكأنه صلى الله عليه وسلم ذكر معنيين متقابلين, فكأن الحديث يقول لك: هذه الأمة فيها جهتان متصارعتان, من جهة أئمة مضلين, وحينما نقول: أئمة مضلون، ليس بالضرورة الساسة والحكام فقط, الحكام منهم أئمة مضلون، والمسئولون منهم أئمة مضلون, والصحفيون منهم شخصيات مضللة, إذاً بشكل عام، وقل مثل ذلك في المفكرين, وفي الأساتذة، وفي من تنظر إليهم الأمة, على أنهم قيادات لها, الأشخاص البارزون الذين تتردد أسمائهم في المجالس والمجامع، ويعرفهم الخاص والعام، والصغير والكبير, هؤلاء بمجموعهم أئمة منهم مضلون, ومنهم أئمة يهدون بأمرنا فالإمامة نوعان، لذلك قال الله تعالى عن فرعون وقومه {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] , وقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] , وقال هاهنا في ذكر الأئمة الضالين المضلين قال {وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين} هذا طرف يقابل هذا الطرف ويجاهده ويناوشه، الطائفة المنصورة، وهم الأئمة الهداة المهتدون, الذين يقاومون عوامل الفساد في الأمة، ويجددون الدين لهذه الأمة, ويحاولون دفع الغربة بقدر ما يستطيعون, لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره, عن أبي هريرة، وسنده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} , ونحن الآن نعيش بدايات قرن جديد، عندما يقول: {على رأس مائة سنة} ليس بالضرورة أنه رأس مائة سنة أي: يوم أو شهر أو سنة, بل قد يكون سنوات, أي: عشرون سنة في أول القرن تعتبر رأس القرن, يعني بدايته, بداية القرن الجديد, عشرون سنة في آخره تعتبر رأسه، بمعنى نهايته, والرأس يطلق على البداية وعلى النهاية.

إذاً: نستطيع أن نقول: أواخر القرون وأوائل القرون التي بعدها هي المناطق التي تبرز فيها حركات التجديد في هذه الأمة, وتزيل ما علق بالدين من انحراف, وهذا التجديد الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء على ثبوته, وهذه بشارة أخرى جديدة، وهذا الحديث على الرغم أن له إسناداً واحداً، وهو إسناد حسن, إلا أن الأمة والعلماء أجمعوا، أولهم وآخرهم، على أن هذا الحديث صحيح، وتلقوه بالقبول، ونقل جماعةٌ الإجماع على تصحيحه.

إن التجديد عمل جبار، عمل عظيم، يتناول الأمة في جميع مجالاتها, ويتناول الأمة في جميع بلادها, لذلك لا يتصور خاصة في القرون المتأخرة -كما يظن الناس- أن المجدد شخص واحد, قد يكون من أبرز المجددين الأشخاص المشار إليهم، لكن قد يكون في كل بلد أفراد وآحاد من الناس، وفي أمور مختلفة، فمنهم دعاة، وعلماء، ومصلحون، ومنهم أصحاب أصناف كثيرة من الخير، لا ينحصرون تحت اسم واحد, ولا تحت شخصٍ واحد بالضرورة, فالتجديد عمل عظيم, يحتاج إلى طوائف من الناس، يقومون بهذه المهمة الجليلة.

وهنا أود أن أنبه في هذا المجال إلى سر لطيف مهم, وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا -كما أسلفت في مطلع الكلمة- أن هناك فرقة ناجية, هذه الفرقة الناجية قد يكون منها أفراد آثروا العزلة -فمثلاً- إنسان وصالح ومستقيم، على عقيدة السلف الصالح ليس عليه ما يعاب, لكنه إنسان إذا جالس الناس، واحتك بهم، وخرج إلى الأسواق، وسمع الإذاعات، والأخبار, فإنه يصاب بضرر عظيم, ويتكدر تكدراً شديداً، ويصبح مزاجه متعكراً إلى الآخر، لا يستطيع أن يعمل شيئاً, وأعصابه مشدودة, وربما يفسد لو أراد أن يعمل شيئاً لشدة حساسيته, فهذا الإنسان يقول: أنا -والله- رأيت أحسن ما لي أن أعتزل هذه الأمة؛ أصلي مع الجماعة، ثم أذهب إلى بيتي؛ لأنني لو أنكرت المنكر كنت سبباً في زيادته, وإذا سمعت الأشياء أصابني تشاؤم، وأصابني غيظ شديد، فرأيت العزلة خير لي, قد يكون هذا مصيباً, يعتزل الناس ويدع الناس من شره, هذا الإنسان هل نستطيع أن نقول: إنه من الفرقة الناجية أم لا نصفه؟ نصفه, لأنه ما عليه مأخذ, لكن هل نستطيع أن نصفه أنه من الطائفة المنصورة؟! لا, الأقرب والأظهر أننا لا نصفه, لأنه لا يقوم بجهد, لأن النصر حليف الإنسان، يجاهد فَيُنْصَر, لكن هذا لا يقوم بجهد، اعتزل الناس، فهو من الفرقة الناجية، وهو إلى خير, بل هو من خير الناس, لكن لا يعد من أفراد الطائفة المنصورة، الذين يجاهدون في الواقع، ويعملون على إقامة الإسلام، وإحياء شعائره، وتجديد ما اندرس من أمر الدين.

إذاً عرفنا أن الطائفة المنصورة جزء من الفرقة الناجية, والفرقة الناجية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} , إذاً ليست مهمة المجددين في هذه الأمة أن يأتوا بدين جديد, ولا أنهم يخرجون عن إجماع الأمة بآراء شاذة، وأقوال غريبة منكرة, يزعمون فيها أنهم مجتهدون مجددون! لا, بل إن مهمة المجددين تتلخص في أمور: الأول: أنهم يعودون بالأمة إلى السمت، والهدي الأول، إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولذلك قال الإمام مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

الثاني: أن عند المجددين ميزاناً ومقياساً يسعون لجر الأمة إلى هذا الميزان, عندهم منارة شاهقة، هي الجيل الأول جيل الصحابة والتابعين, يجرون الأمة إلى محاولة أن تكون في مثل هذا الجيل, ليس المعنى مثلها في المباني والمراكب والملابس, إنما مثلها في الحقائق، وفي فهم الدين، وفي طريقة التعامل مع النصوص, وطريقة التعامل مع الواقع, فهم يعملون على تحويل الأمة إلى مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنهم يعملون على تنزيل الوقائع الجديدة في الأمة على النصوص الشرعية, بمعنى أن الأمة في كل عصر يتجدد عندها مشكلات كثيرة, خذ مثلاً: العصر الذي نعيشه, لو أتيت في المجال الطبي لوجدت آلاف المسائل الجديدة، التي يتكلم عنها الأطباء اليوم، ما كان الناس يعرفونها قبل مائة سنة, مثل القضايا مثل العلاج ونقل الأعضاء، وقضايا أطفال الأنابيب، وأشياء كثيرة جداً في المجال الطبي, الطبيب يقول: أنا يمكن أن أعمل عملية لكنني أحتاج إلى فتوى شرعية.

ننتقل إلى المجال الاقتصادي -مثلاً- تجد في المجال الاقتصادي معاملات وأساليب، وطرائق جديدة حادثة استخدمت تقنية العصر، وبعضها من عقول الناس، وبعضها أمور تحتاج أن يجتهد فيها علماء الأمة.

تنتقل إلى مجال التصنيع, وإلى التربية, أو إلى أي مجال، تجد ما يسميه الفقهاء بالنوازل، التي تحتاج أن يجتهد فيها علماء, ويبينوا حكم الله تعالى وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظنون ويعلمون في هذه النوازل, هذه هي مهمة المجددين، وليست مهمتهم أن يأتوا بدين جديد, ما عرفه المؤمنون، ولا سبقهم إليها أحد من العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015