رابعاً: إن معرفة الإنسان بالسنن الكونية تمنحه بإذن الله تعالى قدرة على تفسير الأحداث -خاصة الكبرى- تفسيراً شرعياً سليماً.
كثير من الناس ينطلقون من منطلقات صغيرة، ومنطلقات آنية ووقتية، ولا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وقد يبهرهم الواقع الماثل المشهود، فيغفلون بمشاهدته والنظر إليه عن رؤية الماضي العريق أو عن رؤية المستقبل المنشود.
أحد الدكاترة يقول: كنت مع صديق لي في قاعدة في بلاد الغرب، وهي التي أطلقوا منها ما يسمى بالمكوك الفضائي (تشالنجر) فيقول: كان زميلي إلى جواري ونحن نترقب إطلاق هذا القمر، فكان يتحدث بإفاضة واسترسال عن التقدم الغربي والتكنولوجيا الغربية، وما وصلوا إليه من تقنية، وهذا التقدم المذهل الذي حصل، ويتكلم عن ذلك حديث المعجب المبهور، يقول: فما هي إلا ثوانٍ حتى أطلقوا هذا الصاروخ، فانفجر بعد ثوانٍ من إطلاقه، فانقلب زميلي في لحظة واحدة، واعتبر أن هذا الذي حصل من انفجار الصاروخ في ثوانٍ، قال: هذه ضربة إلهية قاصمة، موجهة لغطرسة أمريكا التي ما فتئت تعتدي على الشعوب الضعيفة المضطهدة والتي والتي والتي، فانقلب رأساً على عقب خلال ثوانٍ بدلاً من أنه كان يطري الحضارة الغربية، وتقدمها المذهل، انقلب ليتكلم عن هذه الضربة الإلهية الموجهة إلى غطرسة أمريكا وكبريائها، وهذا يدل بكل تأكيد أنه لم يكن يملك معرفة صحيحة بالسنن الكونية، لا أولاً ولا ثانياً، أما أولاً فإن هذه الغطرسة، وهذه القوة، وهذه التقنية التي يملكها الغرب تمت لهم وفق سنة إلهية مدروسة معروفة، ويمكن أن تواجهها وتقضي عليها سنة إلهية أخرى أيضاً، كما أن هذا الانفجار نفسه، لا يعني أن الإنسان يتجاهل كل ما سبق وكل ما مضى، لأنه ما مر زمان طويل إلا واستطاعوا أن يتلافوا بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي جعلتهم يحاولون هذا الأمر مرة أخرى، وثانية، وثالثة، ورابعة.
إذاً: هم يحاولون أن يستفيدوا من السنن، ولا ييأسون ويعملون بالأسباب، أما المسلم فإنه في كثير من الأحيان يجهل هذه السنن، فضلاً عن أن يعرفها أو أن يفيد منها.
إذاً من يملك المعرفة بالسنن الإلهية؛ فإنه يعرف التاريخ، ويعرف الواقع، ويعرف -بإذن الله تعالى- بشائر المستقبل، وفي كثير من الأمثال يقولون: التاريخ يعيد نفسه.
صحيح أن السنن الإلهية التي حكمت في القرون الغابرة، هي التي حكمت الناس اليوم، وهي التي تحكمهم غداً -بإذن الله تعالى- إن للحياة البشرية سنناً كحياة الإنسان فكما أن لحياة الإنسان سنناً، وكما أن للوجود وللكون أيضاً سنناً، فكذلك الحياة البشرية.
وأضرب لك مثلاً: الإنسان يمر بحالة الطفولة، أول ما يولد من ضعف كما قال الله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب، وفيها الفتوة والقوة، ثم يصل إلى درجة الكمال البشري المقدر له، وهو بكل حال ضعف، ليس كمالا مطلقا، لكنه أقوى، وآخر ما يصل إليه الإنسان حينما يبلغ الأشد، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] بعد ما يبلغ الإنسان القمة، يبدأ في النقص، فالهرم ثم الموت، إذاً هي حركة بإذن الله تعالى تبدأ من الضعف وتنتهي إلى الضعف، ثم الموت، هذا بالنسبة للإنسان.
اننتقل إلى الكون، انظر إلى الشمس -مثلاً- تجد أن الشمس تطلع كل يوم في كل صباح، وأول ما تطلع الشمس تكون أشعتها باهته باردة، بل تطلع وبعضها صفراء ليس فيها ذاك التوقد، ولا تلك الحرارة، ولا ذلك الإشراق القوي، فهي بداية كأية بداية، وما تزال الشمس ترتقي في كبد السماء وتشتد أشعتها وتتوهج أكثر وأكثر، حتى إذا توسطت كبد السماء في وقت الزوال كانت في قمة حرارتها، وقمة توهجها، بعد ذلك مباشرةً يبدأ نقصها، فتنتقل إلى جهة الغروب، وتبدأ تفقد حرارتها وقوتها وإشراقها وبياضها وصفاءها، وهكذا حتى تغرب في آخر النهار.
وإذا كان هذا الكلام بالنسبة للإنسان، وهذا الكلام بالنسبة للشمس، فالكلام بالنسبة للأمم، أو للدول، أو للحضارات، هو كذلك فمثلاً الحضارة تبدأ ببذرة بسيطة، همة عالية في نفس إنسان، أو طموح وتوقد، ويرتقي في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ثم يصل إلى القمة في النبوغ والعلو، وبعد ما يصل الإنسان إلى غايته وقمته تصل الأمم إلى غاية كمالها، ثم تبدأ عوامل النقص وعوامل الاسترخاء والدمار تنخر فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ -كما يقولون- العد التنازلي الذي لا يحول دون تحققه أن يتيقظ له بعض العقلاء، فينتبهون إلى أن الأمة بدأت تسقط، بدأت تنهار، وبدأت تضعف، لكن كما يقول المثل: (العين بصيرة واليد قصيرة) لا يملكون دفع هذه السنن الإلهية، لأنها سنة جارية عليهم بلا ريب، وهذه السنة هي الناموس الدائم الذي وضعه الله تعالى للكون والإنسان، أو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: " هي عادة الله تعالى المعلومة في أوليائه وأعدائه".