تعظيماً لله تعالى

أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع من باب تعظيم الله عز وجل، ومزيد الإيمان به، وذلك بالاطلاع على شيء من بديع حكمته وعظيم صنعته؛ إذ يعرف الإنسان الذي اطلع على سنن الله تعالى في الكون والحياة، أنه لا مكان في الحياة للصدفة العمياء -كما يقال- لا مكان في الحياة للفوضى والارتجال، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: {كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} فكتب الله تعالى كل ما هو كائن في هذه الدنيا، سواء على مستوى الفرد، أم الجماعة، أم الأمة، أم الدولة، أم على مستوى البشرية كلها، وهكذا جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة بنحوه بسند صحيح.

إن الطبيب حين يطلع على شيء من خلق الله الخفي في الإنسان؛ يندهش ويصيح (لا إله إلا الله) ، والعالم حين يرصد في منظاره نظام الأفلاك البديع الدقيق العظيم، ويرى عظيم ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من جميل الصنعة وجليلها؛ يرتعش مسبحاً للخالق المبدع الكبير سبحانه وتعالى، بل الفلاَّح الذي يضع الحبة في التربة، ثم يسقيها بالماء فيراها تنشق عن شجيرة، ثم تصبح شجرة مثمرة مونعة مورقة، يشاهد فيها نفس الحياة ونماءها وجمالها فيسجد لله تعالى شكراً، فتجد أن الذين يرون صنعة الله تعالى، هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأولى الناس بالإيمان، ولعل مقارنة سريعة -مثلاً- بين الفلاح وبين الصانع تبرز ذلك، فالفلاح يتعامل مع صنعة الله تعالى، ومع خلق الله، ومع الأرض، ومع النبتة، مع الزهرة، ومع المطر؛ فيرى صنع الله تعالى فيكون أقرب إلى الإيمان، ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الحث على الزراعة والفلاحة وبيان فضيلتها، لكن الصانع في أحيان كثيرة يتعامل مع ما عملته أيدي الناس، ويتعامل مع الآلة، لهذا يقسو قلبه، وتجمد نفسه، وتجف عينه؛ إلا من رحم الله تعالى لأن بينه وبين التعامل مع خلق الله تعالى، حاجزاً من صناعة الإنسان نفسه.

إذاً معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ -مثلاً- أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] سبحانه! {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك: لك في البرية حكمة ومشيئة أعيت مذاهبها أولي الألباب إن شئت أجريت الصحاري أنهراً أو شئت فالأمواج فيض سراب ماذا دهى الإسلام في أبنائه حتى انطووا في محنة وعذاب فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم في الأرض نهب ثعالب وذئاب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015