Q فضيلة الشيخ: الحزبية في العمل الإسلامي ظاهرة لا ينكرها منصف، فما هي أسبابها وكيف يمكن الخلاص منها؟
صلى الله عليه وسلم ينبغي أن نقف أولاً عند تعريف الحزبية لنعرف ما هو المقصود بها؛ فإذا قصد بالحزبية التجمع على مبدأ واحد، أو على اجتهاد، فهذا في حد ذاته يدخل في الكلام الذي قلته قبل قليل، لما تكلمت عن الاختلاف.
وأنه قد يوجد اختلاف محمود، أو على الأقل أنه مقبول، لأنه خلاف ناتج عن اجتهاد في أمور يُقبل الاجتهاد فيها وممن يستطيع الاجتهاد.
أو أنه اختلاف في أمور ناتجة عن اختلاف الظروف، من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى أخرى.
أو أنه اختلاف تنوع، فأنا -مثلاً- مشغول بنوع من النشاط الشرعي، كالتعليم مثلاً، وأنت مشغول بالدعوة، وثالث مشغول بالإعلام، ورابع مشغول بالاقتصاد وهكذا، فكل واحد منهمك فيما هو فيه، ففي هذا الحد ليس في الأمر إشكال، وينبغي أن نكون مرنين بقدر المستطاع؛ لأنه من الصعب أن نجمع الناس على آرائنا أو اجتهاداتنا الخاصة مهما كنا نعتقد أنها صواب، وأنها ملزمة، ولا نجاة للمسلمين إلا بها، إنما ينبغي -أيضاً- أن نعطي الآخرين فرصة أن يفكروا مثلنا، وأن يجتهدوا ويعملوا مثلنا، لا نستطيع أن نلزم الناس بآرائنا أبداً، هذا غير ممكن، وحتى لو كان ممكناً، فهو شر وفساد؛ لأن الخير في التنوع الذي يثري الميدان ويوسع الإطار.
أما إذا كان المقصود بالحزبية التعصب، فلا شك أن هذا مذموم، كالتعصب للمذهب الفقهي فإنه مذموم، كوني حنبلياً أتعصب لمذهب الإمام أحمد -مثلاً- وأجعل الحق محصوراً فيه، وأنفي ما خالفه وأرفضه، وأعد أنه خطأ وباطل، والصواب هو ما ذهب إليه الإمام فقط، فهذا باطل، ومثله لو كنت شافعياً وأعتقد هذا في مذهب الشافعي أو مالكياً أو حنفياً أو أوزاعياً إلى آخره، فكذلك الحال بالنسبة لتنوع الاجتهادات في ميدان الدعوة الإسلامية، خاصة أن العصر الآن عصر مملوء بالتغيرات، وانقلاب في المفاهيم، وتجددت أمور كثيرة، فالعالم - فعلاً- يشهد ثورة في مجال الصناعة، وفي مجال الاتصالات، والمعلومات، وفي مجالات كثيرة جداً، وفي الوقت نفسه تجد أن الكثير من المسلمين لا يستطيعون أن يتعاملوا ويتعاطوا مع هذه القضايا بروح واعية، وروح مدركة، روح تفقه هذه القضايا، وهذه حقيقة إحدى المشكلات التي تواجهها الدعوة الإسلامية، فالتنوع في هذا الإطار مطلوب ولابد منه.
أما التعصب والتحزب والانغلاق على النفس، والنظر إلى الآخرين على أنهم قد شطوا وانحرفوا أو غيروا وبدلوا ثم اتهامهم، ثم كون الإنسان دائماً وأبداً ينصر أصحابه بالحق وبالباطل، ويحاول أن يجعل الفرص لهم إلى آخره، هذه الحقيقة مشكلة، وإن اغتفرناها وسامحنا عنها إلا أننا ينبغي أن نبذل قصارى جهدنا ووسعنا في دعوة الناس إلى التخلص منها بقدر المستطاع، إلى تحقيق مبدأ الأخوة الشرعية، ولا يوجد عصر واجه المسلمون فيه -والله أعلم- من التحديات مثل هذا العصر، تحديات كأمثال الجبال، صعوبات جمَّة، والشعوب المسلمة شعوب مستضعفة، يكثر فيها الجهل والفقر والمرض والتخلف وضعف الوعي والإدراك، والحيلولة بينها وبين دينها، وإنهماكها بالقضايا التافهة أو غير المفيدة، وشغلها بلقمة العيش، هذا أمر أصبح مشاهداً، هل نعتقد أن فئة واحدة أو جماعة أو حزباً بمفرده يستطيع أن يتخلص من هذه العقبات الصعبة، وهذه التحديات القائمة الكبيرة؟! لا يمكن هذا!! بل حتى مجموعات لا تستطيع فعل ذلك بسهولة، فضلاً عن أن هناك تحديات خارجية، متمثلة في القوى المتربصة بالإسلام، والكلام في هذا يطول ربما أنه سبق في أكثر من مناسبة أني تحدثت عن هذا الموضوع، وعلى كل حال فلا أحب أن أسترسل معك فيه، خاصة أن الوقت بالنسبة لي، وربما لك أنت أيضاً يضيق.
فتعدد الجماعات واقع لا مفر منه، وربما يكون التعامل معه من هذا المنطلق، لكن أيضاً ينبغي أن نحس أنفسنا بشكل دائم وصادق وصريح ونخلص لله تعالى أشد الإخلاص، في هذا الجانب وفي غيره، وألا يمنعنا وجود حاجز كمثل كوني من مجموعة أو جماعة أو حزب، لا يمنعني أني أتعاطف مع أذى يصيب مجموعة أخرى من المسلمين؛ لأنهم يختلفون عني أو عنك - مثلاً- في نوع الانتماء، أو في نوع الاجتهاد، أوفي نوع العمل الذي يقومون به، لا! أخوة الإسلام ينبغي أن تكون إطاراً عاماً، يجمع بيننا جميعاً ويوحد الصف، ويجعل النصرة قائمة للمسلم حتى ولو اختلف لونه عن لونك، أو اختلف جنسيته، أو اختلف انتماؤه أو اختلفت طائفته، أو حزبه أو قبليته.
المهم أنه مسلم، ولو كان مفرطاً، أو مقصراً، أو مخطئاً أو عنده جهل، أو انحراف بل لابد أن أنصره ومن نصره أيضاً أن أصحح خطأه وانحرافه.
هذا واجب وينبغي أن ندرك أن هذا من أعظم أسرار التخلف الإسلامي، فالعدو ظن أن المسلمين لا يصنعون شيئاً، لماذا؟ لأنه رأى أنهم لا يتحركون في الأزمات، لأنهم مخدرون من جهة، لكن حتى القِسْم الذي يمكن أن يتحرك يؤثر في تحركه مؤثرات كثيرة، منها: تلك الحواجز التي تحدثت عنها، فإذا استطعنا أن نتجاوزها، فمعنى ذلك أننا سوف ننتقل إلى الهواء الطلق والجو الواسع، والميدان الرحب، وسنستطيع أن نستكمل العلاقات والإمكانيات الإسلامية بشكل جيد، ونفرض وجودنا وهيبتنا على القريب والبعيد.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.