الضبط للسلوك يصرف عنه الآفات والمحن، وأيضاً يحميه من الزلات والمشاكل التي ربما تجره إلى الويلات والنكبات في الدنيا والآخرة لو لم يكن مؤمناً، وقد يقول قائل: كيف؟ نقول: عندما يستجيب الإنسان لداعي الله، ويلتزم بدين الله؛ تنضبط تصرفاته.
فأولاً: لا يستطيع أن يقتل حتى ولو استثير لأنه يعرف عاقبة القتل، وحرمة الدم في الدين، فدم المسلم ثقيل: (ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراما) وأيضاً أول ما يقضى يوم القيامة في الدماء، والمقتول يبعث يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً ورأسه على يده، ويده الأخرى في تلابيب قاتله يسوقه إلى المحشر، يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] القتل ليس بالأمر السهل، إن قابيل وهابيل لما قتل أحدهما صاحبه قال الله تعالى فيهما: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] تصور إذا قتل إنسان واحد بغير حق كأنما قتل الناس جميعاً، ما المقصود بالناس جميعاً؟ الناس جميعاً منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة الآن كل مائة سنة يتجدد وجه الأرض كلها مرة واحدة، الآن على وجه الأرض في الإحصائيات التقريبية أربعة آلاف مليون -أربعة مليار- نسمة، والذي ولد اليوم فإنك بعد مائة سنة لا تجده، فكيف الذي ولد بالأمس أو قبل أمس فيتجدد وجه الأرض كل مائة سنة مرة، أي: إن كل مائة سنة يتجدد على وجه الأرض أربعة مليارات نسمة، وإذا قتلتَ واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32].
ولما همّ قابيل بقتل هابيل، قال الله تعالى مخبراً عن رد هابيل لقابيل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة:28] ثم قال عز وجل مخبراً عنه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة:29 - 30] يقول المفسرون: إن هابيل كان أقدر في الانتقام والقتل من قابيل، ولكن منعه منه خوف الله تعالى، يقول: إن كنت بسطت يدك إلي لتقتلني أنا لا أقابل ذلك بقتلك، لماذا؟ ليس ذلة أو ضعفاً، ولكن قال: إني أخاف الله.
ثم قال: إني أريد إن سطوت علي وقتلتني أن تبوء بإثمي وإثمك.
ولذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث عن الفتنة في آخر الزمان، فقال رجل: (يا رسول الله! أرأيت إن أدركت ذلك الزمان؟ قال: اعمد إلى سيفك فاضرب به في حجر -اكسره ولا تشترك في القتال- قال: يا رسول الله! وماذا أصنع؟ قال: ادخل بيتك، قال: فإن دخل علي في بيتي؟ قال: الزم ركن دارك وخمر وجهك حتى لا ترى بارقة السيف، وكن كخير ابني آدم) يعني: كن كالرجل الأتقى من ابني آدم.
الدم ثقيل! ولكن أكثر الناس يتساهل بقضية الدماء ويثور ويغضب لأتفه الأسباب؛ لأن الهداية انعدمت، والإيمان مزعزع غير مثبت، ولو كان مؤمناً ومهتدياً لما وقع في جريمة القتل التي هي من أعظم الجرائم التي يخسر الإنسان بها الدنيا والآخرة.
يقول لي أحد المسئولين حكاية أو قصة موجودة الآن: إن شخصين كانا في تهامة يسيران سوياً في الخط، وأحدهما تجاوز الآخر، وبعدما تجاوزه أراد أن يرجع إلى الخط الأيمن، وكأنه رجع قبل أن يتجاوز هذا بمسافة كافية، أي: كأنه ضيق عليه طريقه قليلاً، فجاء الشيطان ونفخ في الذي ضُيِّق عليه، وقال: انظر كيف يتجاوزك ويضيق عليك! يريد أن يقلبك، اعمل به مثل ما عمل بك، فشد على البنزين وجاءه حتى تجاوزه، فلما تجاوزه ضيق عليه أشد منه حتى جعله ينحرف إلى الهاوية، فجاء الشيطان إلى الآخر، وقال: انظر! يريد أن يقتلك، هذا ما يريد له إلا أن تريه شغله، فشد على البنزين ولحقه حتى تجاوزه بمسافة بعيدة، ثم عرض السيارة في الخط ونزل وقال له: انزل، و (المشعاب) في يده والمسدس في اليد الأخرى، وذلك مثله مغفل، ولو كان عاقلاً لما وقف، لماذا؟ ماذا تتصور أن تكون النتيجة من وقوفك أمام رجل مثلك في يده سلاح وفي يدك سلاح، ماذا تعمل؟ أتنزل لتسلم عليه؟ أتنزل لتقول: كيف حالك؟ كلا.
بل تنزل لتفكر كيف تذبحه وهو يفكر كيف يذبحك، من أجل ماذا؟ ما هي المشكلة؟ ماذا حصل؟ من أجل تجاوزك له في الطريق أو تجاوزه لك في الطريق؟ كم نسبة تجاوزك له مرات في الحياة؟ ربما من يوم أن خلقك الله إلى اليوم لم يتجاوزك أو تتجاوزه إلا هذه المرة، وربما بعد أن تتجاوزه ينتهي الأمر! هل كل يوم تلتقون للمطاردة في هذا الطريق؟ لكن الشيطان يعمي القلوب، ويورط الإنسان في الورطات.
فلما رآه يقول: انزل، ولو أنه مر عليه وقال له: السلام عليكم سامحك الله في أمان الله ولن أقف لك لخجل من نفسه وانتهت المسألة، ويكون العرض موفوراً، والدم مصوناً، والدنيا بخير، وليس هناك داعٍ للقتال، لكنه حين قال: انزل، قال: أبشر! فوقف على جانب الطريق وأخرج حديدة، فرأى الآخر الحديدة وقال: لن أصل إليه لأنه سيضربني بها في رأسي وأموت فأخرج المسدس وقتله، وكان سائق (دركتر) يشتغل بجوارهم فسمع إطلاق الرصاص فأخذ رقم السيارة -لأن القاتل هرب- وبلغ الشرطة فقبضت عليه واعترف وهو الآن ينتظر الإعدام؛ ومتى يعدم؟ بعدما يكبر أبناء المقتول، أي: ربما يسجن عشر سنوات ثنتي عشرة سنة ثلاث عشرة سنة وبعد ذلك يقتل، يعني: يموت كل يوم، ويموت كل لحظة، ويموت كلما سمع أقدام العسكري، ويموت كل جمعة، وبعد ذلك إذا جاء قرار الإعدام فإنه يموت من يوم أن يخرجوه، ويقولون له: اغتسل، فيموت في تلك اللحظة، وإذا ركب السيارة يموت، وإذا أنزلوه في المغسلة يموت، وكل خطوة يموت فيها إلى أن يوضع تحت البندقية، والضربة تأتي في ظهره لتفتح في ظهره نافذة تخرج من صدره من أجل ماذا كل هذا؟ وليتها تنتهي المسألة بالموت لكان الأمر هيناً، لكنه إذا نظر إلى الناس في الموقف وهم كلهم يتفرجون عليه، ثم يذهبون بعد لحظات إلى بيوتهم وإلى زوجاتهم وأولادهم، وهو يذهب إلى الموت فإنه سيتندم! لكن لا ينفع الندم! ويتمنى أنه ما عرف هذه القصة، ولا عرف السيارة، ولا مر من تلك الطريق، ولكن لا ينفع الندم في تلك اللحظات، ما الذي ورطه في هذا؟ إنه الضلال وعدم الهداية، ولكن لو كان صاحب هداية وإيمان ودين، وعنده خوف من الله لسمح له بالمجاوزة وقال: ماذا يحصل لو تجاوزتني في أمان الله؟ الحمد لله الذي نجانا منك.
وكثير من الناس يقعون في ورطات أسبابها عدم خوفهم من الله، وعدم مراقبتهم لما بعد هذه الحياة؛ لأن الذي يضبط سلوكك هو خوفك من الله، وإيمانك بالجنة، والنار، وتذكرك للآخرة، وتذكرك لعذاب القبر، ولهذا تقول: لا والله، أصبر على العار، ولا أصبر على النار، ولهذا يقول الناس: النار ولا العار.
لا والله، بل العار والعار والعار ولا النار مرة واحدة، لماذا؟ لأن العار ينتهي، لكن النار لا تنتهي.
لما قالوا للحسن بن علي رضي الله عنه وقد تنازل عن الخلافة لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، قالوا له: يا أمير المؤمنين! يا ابن بنت رسول الله! هذا عار، قال: [العار ولا النار] فهو العاقل حقيقة ليس بجاهلي يقول: يلحقني العار ولا تلحقني النار، إذا استمريت في قتال معاوية وإزهاق أرواح المسلمين بغير حقٍ.
فالإيمان والهداية والدين تضبط سلوكك، وإذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك بالهداية فاذهب إلى السجون لترى فيها القتلة، واللصوص والمجرمين، والذين يهربون المخدرات ويتاجرون في المنكرات هؤلاء كلهم الآن يعضون على أصابع الندم ويتمنون أنهم ما وُجدوا لهذه المشكلات، ولكن الشيطان ورطهم إلى أم رءوسهم، وأنت والحمد لله معافى بنعمة الإيمان والهداية التي من أجلها أنت الآن مرتاح وفي نعمة، وهؤلاء الذين في السجون مثلك، لكن لما كانوا غير مهتدين وقادهم الشيطان بأنوفهم إلى أن ورطهم في هذه الورطات شقوا وتعسوا؛ فمن نعمة الله عز وجل أن بصرك وهداك، وأقامك على الصراط المستقيم وأنت سالم؛ لأن من الناس من يتوب لكن بعد دخول السجن، فلم تعد تنفع إلا في الآخرة أما في الدنيا فقد انتهى الأمر.
يقول لي شخص منهم وقد ذهبت لألقي موعظة في السجن العام هنا، وبعدما انتهيت وفتحت له مجالاً في التوبة وفيما عند الله أمسكني وقال: يا شيخ! عندي سؤال؟ قلت: تفضل، قال: أين هذا الكلام قبل أن آتي إلى هذا المكان؟ يقول: هذا الكلام الذي تقوله، أين هو؟ ما سمعناه قبل أن نأتي إلى هنا؟ يقول: كنت أتمنى أن أعرف هذا الكلام قبل أن آتي إلى هنا، أي: أود لو أني اهتديت وآمنت واستقمت، قلت: ما هي قضيتك؟ قال: عليَّ رقبة، قلت: ما هو الحكم؟ قال: أنتظر القتل، يقول: لم يعد ينفع كوني أتوب الآن وأهتدي، لكن ينفع إن شاء الله في الآخرة.
لكنه مسكين! يريد أن يعود إلى زوجته وأولاده! يريد أن يعيش مثلما يعيش الناس لكن توبته لا تفكه من السجن إلا إلى الموت! فأنت احمد الله الذي لا إله إلا هو، فهو الذي عافاك وما ابتلاك، وأقامك حتى عرفت نعمة الله عليك، وما كان ذلك ليحصل لك إلا بطريق الهداية والاستقامة على دين الله تعالى.
وآخر كان نائماً في بيته قد خلع ملابسه واستسلم للنوم، وإذا بطارقٍ يطرق الباب عليه في الساعة الثانية عشرة فيقول له أهله: -أهل الولد يقولون للطارق- من تريد؟ قال: أريد فلاناً، قالوا: نائم -لا تستطع أن نوقظه لأنه نائم- قال: أيقظوه، الأمر ضروري، قالوا: الأمر ضروري! فذهبوا إليه وهو نائم: فلان فلان: يريدك فلان فقفز قفزة الأسد، لماذا؟ لا يمكن أن يتأخر عن صديق