يقول الله عز وحل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وهذه عظمة الإسلام في أن التفاضل فيه ليس بالتوارث، إذ التفاضل بالدين، وبإمكان أي واحد من البشر أن يسابق بهذا الفضل وأن يصل إليه، ولهذا يقال: إن عطاء بن أبي رباح وهو من التابعين رحمه الله ورضي عنه، كان قد بحث عن مهنة يمتهنها فلم يجد، وكان دميم الخلقة، قصير القامة، أسود اللون، فكلما ذهب في عمل من الأعمال طرده الناس، أي: (لا عون ولا لون)، ماذا يشتغل؟ فدخل على أمه يوماً من الأيام وهو في مكة، قال لها: [يا أماه: ما أراني إلا قد شقيت -أي: لم أجد لي وسيلة للسعادة في هذه الدنيا، لم أجد مهنة أمتهنها- قالت له: ألا أدلك على عملٍ إن عملته هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك، قال: عمل إن عملته يهابني الملوك وينقاد لي به الصعلوك! قالت: نعم، قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم] فأخذ قلمه ومحبرته واتجه إلى الحرم، ولازم الحرم وطلب العلم على أيدي العلماء، وفتح الله له الآفاق، واستقبله في مجالات العلم، حتى أصبح عطاء الرجل الأول في العالم الإسلامي في العلم، بحيث إذا قيل في المسائل كلها ولم يقل فيها عطاء بقول تتوقف الأمة حتى يعرف ماذا قال فيها عطاء! ويحج الخليفة في سنة من السنين إلى بيت الله الحرام، ويتذاكر الناس في مجلسه في مسألة من مسائل العلم فيسأل هو: ماذا قال فيها عطاء؟ قالوا: لا ندري ماذا قال، قال: لا يقال وعطاء موجود ادعوه لي -أرسلوا إليه لنسأله عن هذه المسألة- فأرسلوا إليه، فلما أرسلوا إليه رد الرسول وقال: [قل لأمير المؤمنين ليس لنا فيما في يديه حاجة حتى نأتيه، وإن كان له حاجة فيما في أيدينا فليأت إلينا] انظروا جواب العزة والإيمان! يقول: ما لنا حاجة في الذي عنده من الدنيا حتى نأتي إليه؛ لكن إذا كان له حاجة فيما عندنا من العلم فليأت إلينا- فلما جاء الرسول وأخبره قال: صدق والله عطاء فليس له بنا حاجة، لكن نحن بحاجة إلى عطاء، يقول: فقام أمير المؤمنين ومعه رجاله وانطلق إلى بيت عطاء ليزوره، فلما جاء إلى البيت كان عطاء يصلي فطرق الباب، فنزل إليه ابن الشيخ عطاء بن أبي رباح، وإذا به خليفة المسلمين برجاله وهيلمانه وحرسه وحشمه، ماذا تريد؟ قال: نريد أباك، فصعد إلى أبيه يريد أن يستأذنه بدخول الملك، وكان يصلي فأطال الركعتين، لما عرف أن هناك أناساً يريدونه، وبقي الخليفة واقفاً عند الباب، ثم لما سلم والولد يصعد وينزل تحرجاً من الموقف، ويريد أن يسمح للخليفة بالدخول لكن ليس عنده إذن من أبيه، وفي نفس الوقت أبوه في الصلاة، فلما انتهى رفع يديه إلى السماء وجلس يدعو دعاءً طويلاً أطول من صلاة الركعتين، ثم لما انتهى قال لولده: إئذن له -اتركه يدخل- فدخل أمير المؤمنين، فلما دخل قام وحياه ورحب به وأجلسه، قال: ما هذا الجفاء يا عطاء؟ قال: أي جفاءٍ يا أمير المؤمنين؟ قال: دعوناك فما جئتنا، وزرناك فما أذنت لنا، قال: [أما إنك دعوتني يا أمير المؤمنين! فكما قلت لك: ليس لي فيما عندك حاجة حتى آتيك، وإذا كان لك حاجة فلتأت وقد جئت، وأما إني لم آذن لك فإني كنت أناجي من هو خيرٌ منك؛ كنت أناجي ربي فما كنت لأقطع مناجاة ربي لمناجاتك فلما فرغت من مناجاة ربي أذنت لك فحياك الله] فجلس ثم سأله المسألة فأعطاه الجواب ثم خرج، وأعطى واحداً من رجاله صرة فيها عشرة آلاف درهم للشيخ، فلما أخذها قال له: [ردها لأمير المؤمنين وقل له: ندلك على سبيل الفلاح وتدلنا على سبيل الهلكة] لا نريد شيئاً وردها له، فلما أخذها الخليفة قال: والله ما رأيت نفسي ذليلاً في حياتي إلا بين يدي هذا العبد.
طبعاً أمير المؤمنين خليفة ابن خليفة ما رأى الذلة في حياته، ولكن يقول: والله ما شعرت بالذلة في حياتي إلا بين يدي هذا العبد الأسود.
ما الذي رفعه هذه الرفعة العظيمة إلا الدين والإيمان.
فأنت -يا أخي المسلم- تجني ثمرة الإيمان في هذه الدنيا عزةً وسعادةً وأمناً وطمأنينةً وراحة وهدوءً لا يمكن أن تجدها في غير الدين، وهذه وحدها كافية.