الأمر الثاني المهم في الصلاة: الخشوع.
الخشوع هو روح الصلاة، الصلاة جسد وروح؛ فجسدها: القيام والركوع والسجود والقراءة، وروحها: الحضور القلبي والخشوع، والجسد بدون روح ليس له قيمة، والصلاة بدون خشوع ليس لها قيمة، ولهذا لا يكتب لك من صلاتك إلا ما حضر فيها قلبك، وهل يحضر قلبك في كل الصلاة؟ مستحيل! ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنصف، قال: (يكتب للعبد من صلاته نصفها) أي: الذي يجيد النصف هذا أكثر واحد، (نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها) بعد العشر لا يبقي شيء، لماذا الشخص لا يستطيع أن يجيد الصلاة كلها؟ لأن أقدس موقف بين يدي الله هي الصلاة.
وهناك قوة خفية وهي: قوة الشيطان التي لا تريد لك أن تقف هذا الموقف فهي تصدك عن الصلاة بكل وسيلة، وإذا أردت أن تصلي تسلط على قلبك وأشغلك، ولذا لا يجد الإنسان وساوس ولا خطرات ولا أفكار إلا في الصلاة، هل يوسوس أحدنا وهو يتغدى أو يتعشى؟ ما رأيكم إذا وضعوا السفرة أمام أحدنا هل يأتيه وسواس؟ أو يأتيه تفكير؟ لا.
يفكر في اللحم وفي الأرز وفي الإدام والمحلبية والسلطة والخضرة فقط، تفكيره بالسفرة، هل يوسوس أحدنا أو يفكر وهو يشاهد المباراة؟ لا.
بل بعضهم لو أخذت الذي في يده لا يشعر، لكن لماذا يوسوس في الصلاة؟ لأن الصلاة كنز والشيطان يريد أن يسرقها عليك، ولذلك يقول أحد السلف: إذا نسيت شيئاً وأردت أن تذكره فقم إلى الصلاة، مباشرة يأتيك الشيطان من أجل أن يلهيك عن الصلاة، ولا يأتيك الشيطان بأهم شيء إلا إذا صليت، يعرف الشيطان من خلال ملابسته لك ما هو موضع اهتمامك، إن كنت تاجراً اهتمامك بالتجارة، وإن كنت تبني عمارة فتفكيرك كله في العمارة، كيف التفصيل؟ ومن المقاول؟ وأين نضع المجلس؟ وأين نضع الرخام؟ يضع العمارة كلها بين يديك، فإذا أكملت الصلاة ضيعها عليك فإذا بك لا صلاة ولا عمارة وهكذا.
أذكر قصة وقعت لي قبل نحو (25 سنة) وكنت في أبها فأرسل لي أحد المحسنين مبلغاً من المال لتوزيعه على فقراء منطقة تهامة (مائة وخمسين ألفاً) وجاء بها في حقيبة دبلوماسية تركتها في ليلة من الليالي قبل التوزيع؛ لأني أرسلت إلى تهامة إلى بعض طلبة العلم لكي يأتوا ويوزعونها، فأردت زيارة أرحامي فأخذت أهلي وركبت فلما ركبنا في السيارة تذكرت الحقيبة، قلت: يمكن أن يسرقها لص وأنا ليس لدي إلا بيتي أبيعه وأعوض، فذهبت وأخذت الحقيبة ووضعتها في السيارة فإذا وصلنا البيت أنزلها، فوصلنا بيت الأهل وإذا بالمؤذن يؤذن فأنزلتهم وذهبت أصلي وجعلت الحقيبة في الحوض، أخرجتها من الحرز إلى الشارع! دخلت المسجد وصليت الركعتين -تحية المسجد- وجلست أقرأ وجاء الإمام فلما رآني قال: يا شيخ! أريد منك كلمة بعد الصلاة، قلت: خيراً إن شاء الله، فلما أقيمت الصلاة قدمني ولما قلت: الله أكبر، قال الشيطان: والحقيبة، لا حول ولا قوة إلا بالله! أي: لو أنه قال لي قبل الصلاة لخرجت، ولو تركني على الأقل أصلي وبعد ذلك يقول لي، أجل، المصيبة وقعت لكن مع بداية الصلاة، فأصابتني هزة أشبه بالصعق الكهربائي! (مائة وخمسون ألف ريال) أتركها في الشارع وأنا لا أملك في الدنيا إلا بيتاً لو بعته ما يأتي (بخمسين ألفاً)، و (المائة والخمسون الألف) في تلك الأيام تعدل مليوناً ونصف.
فما عرفت ماذا أقرأ من بداية الصلاة أردت أن أنصرف! صعب، أواصل! أصعب! جمعت نفسي وقرأت الفاتحة وأتى الشيطان وأنا في الركعة الأولى، قال: بسيطة ويضع لي حلولاً فخرجت من الصلاة وأنا لا أعلم ماذا صليت، ولما انتهيت من الصلاة أردت أن أخرج وإذا بأخينا إمام المسجد يقوم، قال: معنا في هذه اللحظة المباركة فضيلة الشيخ سعيد بن مسفر وقد أكرمنا الله به في هذه الساعة فنطلب من فضيلته أن يتحفنا بكلمة.
قلت: يا شيخ! لا يوجد لدي كلمة ألقيها.
قال: والله لابد أن تتكلم، لا حول ولا قوة إلا بالله! أنا ليس عندي كلام وحالتي النفسية مضطربة فقمت واستفتحت وتكلمت بكلمتين وقد قيدت الجالسين وما أردت أحداً أن يخرج خفت أن يخرج شخص من أمامي فيأخذها، فقيدتهم بالجلوس في مجالس الذكر وفضيلة مجالس الذكر وأن الذي يخرج من مجلس الذكر منافق، المهم سلمت وخرجت وإذا بالحقيبة مكانها فأخذتها ودخلت سجدت لله سجدة شكر، قلت: والله ما حفظها إلا ربي أما أنا فقد ضيعتها، لكن الشاهد أن الشيطان لا يذكر بالشيء إلا في الصلاة وأعدت صلاتي تلك.
لابد أن نحرص على مجاهدة أنفسنا في الصلاة، لا نقول: إنك تسلم (100%) لكن لا تستسلم (100%) كما قال ابن القيم: فهذا في صلاة وجهاد؛ لأنه قسم المصلين إلى خمسة أقسام، يقول: رجل ضيع حدودها وطهارتها فهذا خاسر، ورجل حفظ الحدود والطهارة والوضوء والركوع والسجود وضيع القلب والخشوع فهذا معاقب، ورجل يأخذ منه الشيطان ويأخذه من الصلاة، يقول: فهذا في صلاة وجهاد -والرجل الرابع والخامس ليسا موجودين الآن إلا أن يشاء الله- يقول: ورجل وضع قلبه بين يدي ربه واستشعر عظمة مولاه وعظمة الموقف الذي هو فيه، ففكر فيما بعد هذه الحياة -أين هو هذا؟ الله أكبر- يقول: فهذا مقرب.