إن المتأمل لآيات الكتاب الكريم ولأحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه يجد هذا واضحاً، بل يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي أن هذا واضح في أكثر من ألف موضع في القرآن الكريم، وهو أن الله دائماً يرتب الجزاء على فعل الإنسان.
قال عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] فلا يحصل شيء من العبد إلا ويحصل له جزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، يقول عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] فظهر الفساد في البر والبحر: فساد في الهواء، والماء، والثمار، وكل شيء بكسب العباد، فتتأثر جميع المخلوقات بكسب الإنسان {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] وإلا لو أذاق الله العباد كل ما عملوا ما بقي على ظهرها من دابة، ولكن الله حليم يمهل ولا يهمل، ويقول عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26 - 27] فهذه آية توضح أن القضية قضية كسب، فاكسب خيراً؛ تربح، واعمل سيئات؛ تحسب عليك، فلا يأخذ ذنوبك غيرك، ولا يأخذ حسناتك غيرك، يقول الله عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ويقول عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:46 - 52] في الجنة من كل فاكهة زوجان {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:53 - 54] جنى أي: ثمر، فثمر الجنان دان، وأنت جالس يأتيك الثمر في مجلسك، وحين تقوم يقوم معك، وحين تمشي يمشي معك، فأينما اشتهيته وجدته {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:55 - 56] نساء الجنة قاصرات الطرف، فقد قصرت طرفها على زوجها فلا تطمع في سواه، ولم يطمثها قبله أحد، فهي نظيفة مبرأة، وبعد ذلك يقول الله عز وجل في وصفهن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57 - 58].
حورياتك في الجنة وزوجاتك -يا عبد الله- مثل الياقوت والمرجان، فتصور امرأة مثل الياقوتة، كيف يكون وضعها؟ الآن أقل قطعة من الياقوت أو المرجان قيمتها مبالغ طائلة، وحجمها لا يتعدى رأس الإصبع، فكيف تريد ياقوتاً أو مرجاناً بلا قيمة؟ لا.
ثم قال عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:59 - 60] وهذا الشاهد من الآيات، هل جزاء إحسانهم في الدنيا إلا إحسان الله لهم بالثواب العظيم في الجنة.
في الآية التي تلوتها عليكم يقول الله فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} [يونس:26] أي: أحسنوا في عقيدتههم فكانت خالصة من الشرك، وأحسنوا في عقيدتهم فكانت صافية من شوائب البدع والخرافات؛ لأن العقيدة لا بد أن تكون صافية من أمرين: ليس فيها شرك ولا بدعة ولا خرافة، وإنما خالصة: توحيد لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك أحسنوا في عبادتهم، فيعبدون الله على أفضل صورة، وأحسنوا في سلوكهم، وأخلاقهم، وتعاملهم، فماذا يحصل لهم وهم محسنون؟ قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] ما هي الحسنى؟ قال العلماء: الحسنى هي: الجنة، والدليل: أنها جمعت كل شيء حسن، فكل ما خطر في بالك مما يتصوره عقلك ويذهب إليه خيالك من جميع الملذات والنعم، ففي الجنة أعظم منه، ويكفيك أن الله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وليس بما كانوا يلعبون، أو يسمرون، أو يضيعون، لا.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] فقد قطعوا لياليهم وأيامهم في طاعة الله، فيقول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] أي: الجنة، واحدة بواحدة، لكن بقي مكسب؟ ما هو؟ قال: (وزيادة)، فما هي الزيادة؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها النظر إلى وجه الله الكريم)، وهو أعظم نعيم يحل بأهل الجنة، وهل أعظم من أن تمتع بصرك بالنظر إلى وجه ربك وخالقك؟! الآن إذا جاء ملك أو وزير أو أمير، ومر من شارع أليس يتدافع الناس ويتسابقون، ويقفون في الشوارع يريدون أن يروه إذا مر، ويريدون أن يروا وجهه إذا عرض، لماذا؟ لأنه صاحب فضل عليهم، وهل هناك صاحب فضل أعظم من فضل الله عليك؟ خلقك من العدم، ورباك بالنعم، وأوجدك من لا شيء، ثم أرسل لك رسوله، وأنزل عليك كتابه، وهيأ لك جنته، ودعاك إلى عبادته، ثم سرت في طريقه حتى أسكنك جنته، وبعد ذلك وأنت في الجنة يتم عليك نعمته بأن تنظر إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم! يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا أرحم الراحمين! نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تمتعنا وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وجميع إخواننا المسلمين بالنظر إلى وجهك الكريم في الدار الآخرة، وأن تعتق رقابنا من النار، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وهذه الزيادة تأتي بعد تطمين الله لأهل الجنة، بأنهم يمرون على النار {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} [يونس:26] والقتر هو: الإحراق، فإحراق النار يأتي منه قترة وعذاب شديد {وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] والذلة هي: الخزي؛ لأن عذاب النار ينقسم إلى قسمين: عذاب مادي وهو: الإحراق، وعذاب معنوي وهو: الذلة والانكسار الذي يحصل للإنسان في النار.
والنار كلها سيئة -نعوذ بالله وإياكم من النار وما فيها من العذاب- قال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26].