كذلك أهل النار عندما يدخلون النار يبلس المجرمون، وبعد ذلك يتعلقون ببقايا آمال في أعمال كانوا يصنعوها في الدنيا ظنوا أنها تنفع؛ لأن أعمال الكفار يوم القيامة تنقسم إلى قسمين: أعمال بغي وكفر وفساد، فهذه باطلة وفاسدة، ولا يرجون ولا يتوقعون من ورائها خيراً، وهذه شبهها الله في القرآن بالظلمات، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] * {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] هذه الأعمال الباطلة ظلمات بعضها فوق بعض.
وظلمات يظنون أنها تنفعهم يوم القيامة وهي: الصدقة، العتق، صلة الأرحام، الصدق في المواعيد، والمعاملة، والاتجار، لكن هذه نفعتهم في الدنيا؛ لأنهم لم يعملوها لوجه الله وإنما للدنيا، صدقوا في المعاملات لكي تنضبط أمورهم، أخلصوا في العمل لكي تشترى بضائعهم، ووصلوا أرحامهم لكي يبادلوهم بالمودة والمشاعر، وتصدقوا إلى جمعيات الحيوانات من أجل غريزة نفسية؛ فما نفعهم هذا العمل في الدنيا، يقول الله فيهم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] * {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
حبط ما صنعوا في الدنيا والحبط: هو داء يصيب بعض المواشي، إذا أكلت بعض النباتات انتفخ بطنها، ثم حبطت ثم انفجرت يسمى (الحشر) ويقولون: الغنم (حَشَرَت) إذا أكلت طعاماً من ذرة لم تنضج، فهؤلاء يأتون ببطون يحسبون أن فيها شيئاً، لكن قال الله {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
ويقول عَزَّ وَجَلّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] ويقول الله عَزَّ وَجَلّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19] فهؤلاء عملوا عملاً صالحاً ولكن ما أرادوا به وجه الله، فإذا جاءوا يوم القيامة ظنوا أنهم على شيء، قال الله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ)) [النور:39] أي: أعمالهم الصالحة {كَسَرَابٍ} [النور: 39] السراب الذي في الصحراء، إذا رأيته في الظهيرة ترى كأنه ماء، فتقدم عليه وتشد نفسك إليه فكلما اقتربت ابتعد عنك، قال الله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] فهؤلاء عملوا عملاً كسراب، ويوم لقوا الله ما وجدوا شيئاً.
ثم مثَّل الله عملهم بالرياح الشديدة التي تهب على الزروع والثمار اليانعة فتحطمها، قال الله عَزَّ وَجَلّ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} [آل عمران:117] يعني: الكفار، نفقاتهم، وصدقاتهم، وإغاثاتهم، وإعطاؤهم للجمعيات الخيرية، والبر وهم كفار؛ {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ} [آل عمران:117] ريح لا رياح، والريح أشد {فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران:117] أي: فيها عواصف شديدة وصوت يصر ويقطع الأشجار {فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117] لديهم زروع وثمار من العمل لكن لديهم ريح فيه صر وهو الكفر، فأهلكت عملهم هذا والعياذ بالله.
وقد شبه الله عملهم أيضاً بالرماد، وتصوروا رجلاً جعل الله أعماله كلها رماداً، والرماد نهاية النار، كما يقول المثل: (النار ما خلفت إلا رماداً) يضرب هذا المثل إذا وجد -مثلاً- رجل صالح وابنه فاسد فيقولون هذا المثل.
فقد شبه الله أعمال الكفار الصالحة بالرماد، قال الله عَزَّ وَجَلّ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] تصور شخصاً معه رماد، والريح اشتدت فذهبت به، قال الله: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18] ولذا يجعل الله أعمالهم هذه كلها هباءً: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
في الحالة الأولى: لهم الذلة والصغار والنكال والعذاب.
ثم في الحالة الثانية: لهم إحباط العمل، فيقولون: عندنا عمل، فيحبطه الله فلا يبقى.