أما أسبابه فكثيرة، منها وأهمها وأخطرها:- من أسباب الضعف: الغلو والتشدد وعدم الاعتدال والسير في الطريق الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤدي عدم الاعتدال إلى الانقطاع؛ لأن المْنْبَتَّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، من هو المْنْبَتَّ؟ المنبت: هو الذي يريد أن يسافر -مثلاً- من هنا إلى جدة على الجمال، ومعه جمل، وكانوا يأخذونه على مرحلتين، لكنه قال: سآخذها في مرحلة واحدة ومشى وفي نصف المرحلة إذا بجمله يموت ومات هو جوعاً، فلو أنه قعد يستريح ويتعشى وصل، ولهذا قالوا: المنبت (يعني الذي يتجاوز الحد) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لا هو قطع الطريق ولا هو أبقى لنفسه ولا جمله وإنما قطع ظهره وما قطع المسافة.
فالمتشدد الغالي الجافي، الذي يتنطع ويتجاوز السنة، ولا يُفهم -أيها الإخوة- التشدد أنه السنة، بعض الناس الذي هو ضعيف متسيب تارك للدين إذا رأى أهل السنة قال: هؤلاء متنطعون، فأهل السنة الذين يقيمون أوامر الله هؤلاء ليسوا بمتنطعين، لكن من هو المتشدد؟ المتشدد له صور، ولكن قبل الصور نبين الأدلة على التحذير من التشدد، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرج الإمام أحمد: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) ويقول صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون) رواه مسلم وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر، ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه).
وصور أو مظاهر التشدد ما ثبت في البخاري، عن عثمان بن مضعون: أن ثلاثة من النفر سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى بيت الرسول وسألوا عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل أبداً، والثاني قال: وأما أنا فلا أتزوج النساء أبداً، وأما الثالث فقال: وأما أنا فلا أفطر الدهر أبداً -أصوم دائماً-.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر عرف أن هذا يتعارض مع منهج النبوة، ومع طبيعة الإسلام والدين، وأن هذا دين النصارى الرهبانية؛ فناداهم وقال: (ما بال أقوام يعملون ويقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمظاهر التشدد أنك تصوم الدهر كله وهذا مظهر لا ينبغي لك فعله، ومن مظاهر التشدد أنك تقوم الليل كله وهذا لا ينبغي لك، فلنفسك حق ولأهلك حق ولعملك حق ولهذا الذي يقوم الليل كله من العشاء إلى الفجر بعد ذلك يترك القيام كلياً، لكن لو قام نصف ساعة فصلى ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثمان أو أحد عشر وهي أعلى شيء وهو الهدي النبوي! ما أعظم من ذلك! لأن الدين وسط، والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] والوسطية تعني الاعتدال في بعض مفاهيمها.
أيضاً: من صور الغلو ما نسمع، حيث سمعنا وما ندري هذا الكلام صحيح أن هناك أناساً يقولون: لا نستخدم الكهرباء في بيوتنا! لماذا؟! قال: لأن الكهرباء هذه آلة تشغل عليها آلات الباطل، والهواء الذي نستنشقه أنت أليس أهل الباطل يستنشقونه؟ والماء الذي أنت تشربه أليس أهل الباطل يشربونه؟ والأرض التي تسير عليها أليس أهل الباطل يسيرون عليها؟ هذا منكر وهذا لا يجوز يا أخي! فالكهرباء نعمة من نعم الله يمكن أن تستخدمها في طاعة الله، ويمكن أن تستخدمها في معصية الله، مثل الماء يمكن أن تستخدمه في طاعة الله فتشربه وتستعين به على الطاعة، ويمكن أن تشربه وتستعين به على المعصية، ومثل الزاد الذي تأكله، فالمؤمن يأكل من نعم الله ويقوم بها في طاعة الله، والفاجر يأكل من نعم الله ويقوم بها في معصية الله، كل النعم في الدنيا سلاح ذو حدين إن استعملتها في الخير فهي خير، وإن استعملتها في الشر فهي شر.
يقول لي أحد الأشخاص: بأنه جاء إلى مسجد والناس يكادون يموتون من الحر في مدينة من المدن التي فيها جو حار يقول: والمكيف مقفل، والمراوح مقفلة، والإمام يصلي بهم وعرقهم يصب وهم في حالة من التعب لا يعلمها إلا الله! يقول: صلى معهم ركعتين في التراويح ولما سلم قال لهم: شغلوا المكيف والمروحة فقال له الإمام بعد أن تلفت فيه قال: من أين جئت أنت؟ قال: جئت من الأرض أريد أن أصلي معكم.
قال: لا.
المكيف ما نشغله.
قلت: لماذا؟ قال: لأنه يفسد علينا خشوعنا سبحان الله العظيم! هذا من التشدد في الدين، بل على العكس الذي يفسد عليك خشوعك الحر، فإذا كيفت الجو وصار الجو بارداً وجميلاً فإنك تخشع في قلبك، لكن عندما تكون كأنك في فرن كيف تخشع؟ تريد أن تنفك من الصلاة بأي وسيلة فهذا من مظاهر الغلو والتشدد.
ومن مظاهر الغلو والتشدد: الغلو في رفع الثوب، من الشباب من يقصر ثوبه؛ لأن إسبال الثوب حرام، فما تحت الكعبين ففي النار، والإسبال من المخيلة (وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب).
وفي الحديث: (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول ذمته وإسبال إزاره) ومعك مجال من نصف الساق إلى فوق الكعب فبإمكانك أن ترخي ثوبك إلى فوق كعبك، لكن من الناس من يغلو ويرفع ثوبه إلى ركبته، فقد رأيت أحد الشباب ثوبه إلى ركبته كأنه (فنيلة) وليس ثوباً! قلت له: يا أخي تعال تعال ماذا بك؟ قال: هذه السنة.
قلت: لا.
ليست السنة، أين السنة؟ هل السنة إلى نصف الساق؟ قال: نعم.
قلت: تعال، فلما قمت بقياس ما بين كعبه إلى ركبته، وإذا به بقي شبر بينه وبينها، قلت له: ليست السنة هكذا يا أخي؟ لماذا تريد أن تظهر أمام الناس أنك متدين؟ هذا رياء، تريد أن تلبس ثوب شهرة؟ (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة) لماذا يا أخي! نضع على أنفسنا علامة استفهام بين الناس؟ عندما نشعر الناس بأننا جنس غيرهم؟ نحن من المسلمين، ونحن يجب أن نتعايش في حدود ما يسمح به الإسلام والدين، فإذا أباح الإسلام لي أني أنزل ثوبي إلى الكعب فمن حقي أن أنزل ثوبي إلى فوق الكعب، أما أن أرفعه إلى الركبة فهذا تشدد ما أنزل الله به من سلطان، وراقبوا هذا الذي ثوبه إلى الركبة سنتين أو ثلاثاً وتعالوا وانظروا وإذا بثوبه تحت رجله وقد ترك الدين بالكلية لماذا؟ لأنه غلا، ومن تجاوز الحد انقلب إلى الضد.
ومن مظاهر التشدد: المبالغة في رفع اليدين ووضعها على الصدر، فقد ورد حديث في البخاري عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى) وفي الزيادة: (على صدره) في صحيح ابن خزيمة، زيادة على شرط البخاري (على صدره) والصدر يبدأ من عظام القفص الصدري إلى نهايتها، لكن لماذا تجعلها على عنقك؟ هذا غلو، أم تريد أن تشعر الناس أنك من أهل السنة؟ فهذا رياء، بل سر في الوسط؛ لأنك وسط.
أيضاً: من مظاهر التشدد ما نلمسه عند بعض الإخوان في المراصة في الصفوف، إذا جاء في الصفوف الأصل في السنة أنك تقف وبعد ذلك تقترب من الذي بجانبك مما يلي الإمام، وذاك يقترب من الذي بجانبه مما يلي الإمام، بحيث يتراصون ويتقاربون ولا يبدون ولا يبقون فرجة، فإن الفُرَج إذا بقيت بين الصفوف دخل منها الشيطان كالحذف يعني: كالبهمة الصغيرة، هذا الأصل، لكن بعض الناس لا يريدك أن تقترب منه، فإذا قربت منه ابتعد عنك، فتضطر أن تصلح خطأه فتفتح رجليك ثم يبتعد منك فتفتح رجليك انفتاحاً شديداً.
وهذا لا ينبغي بل على كل مسلم أن يكون قريباً من أخيه المسلم.
أيضاً من التشدد والمبالغة: ما نلمس عند بعض الإخوة وهو يسجد، المجافاة سنة، أن تجافي بين عضديك وجنبيك، وبين بطنك وفخذيك فهذا من السنة، لكن بعض الإخوة يبالغ ويمتد كأنه سينام، وبعضهم يربض كما تربض الشاة، فكلا الأمرين خطأ سواء كان تساهلاً أو تشدداً.