لقد غابت هذه المفاهيم -أيها الإخوة- عن كثير من الناس في هذا الزمان، وأصبح الناس يفرحون برمضان لا لأنه شهر الصيام والقيام والتلاوة، يفرحون لأشياء أخرى، منها: أولاً: يفرحون برمضان؛ لأنه شهر الطعام -شهر الأكلات- وإذا رأيت الناس في أواخر شعبان ومع بدايات رمضان ظننت أنهم كانوا صائمين طوال العام، وأنه دخل الشهر الذي يأكلون فيه، بينما دخل الشهر الذي يصومون فيه، والمفروض بمنطق العقل أنك ما دمت تأكل طوال السنة وجاء رمضان فلا حاجة لشراء الفائض من المأكولات، لماذا؟ لأنك ستصوم، ولكن الناس عندما جاء رمضان اتجهوا لتكديس المأكولات لرمضان، وبدأت البيانات تصدر من أمهات البيوت وربات الأسر، وكل واحدة تطلب المشتريات، إذ لا بأس بطلب أعداد بسيطة، لا بكميات ضخمة -كراتين- كرتون شربة، وكرتون مكرونة، وكرتون قطر الموز، وكرتون جيلي بالكراتين، وترى الأسواق وأماكن بيع المواد الغذائية تستعد بالبضائع الجديدة وتنشرها في مقدمة الأسواق، وتخرجها أمام المحلات التجارية، ويستعد الناس بالمبالغ الطائلة التي توفر طول السنة، ويقولون: (سنة ما تخدم شهر؟!) لابد أن نأكل، رمضان كريم! دعنا نأكل فقط! رمضان كريم لكي تصير كريماً! وليس لتأكل وتترك الفقراء والمساكين بدون طعام.
ويملئون البيوت بالخيرات وإذا بدأ رمضان أتاك الرجل وهو منشغل طوال اليوم، في حين تكون المرأة نائمة إلى الظهر، ومن الظهر إلى المغرب تكون المرأة مشغولة بالطبخ! إعلان عن حالة طوارئ في المطابخ النيران تشتعل، وبعض المواقد فيها عشرة عيون، وكلها تشوي وتقلي وتطبخ والمرأة قائمة على قدم وساق، والأولاد، والبنات، والخادمات، والرجل أحيانا يشارك ويمر عليهم للإشراف، يقول: (نفزع، تريدون نقلب، ونشوي، ونعرك، ونعصد، ونعصر في شيء؟) وإذا كانوا غير محتاجين لمساعدته قالوا له: اذهب وأشتر من السوق شيئاً حلواً -حلاوة- أو حنيذاً على الطريق، أو خضاراً أو حتى إذا أتت السفرة ترى أمامك سفرة فيها عشرات الأنواع من الأطعمة، والإنسان ليس في بطنه إلا معدة بسيطة؛ لكنه الجشع والطمع وعدم معرفة الحكمة من فرض الله لهذا الصوم.
فالرجل بناءً على الاهتمام بالمشتروات لا يمكنه أن يقرأ، متى يقرأ؟ هو في الصباح نائم إلى الساعة العاشرة، ثم يذهب إلى الدوام ولا يرجع إلا الساعة الثالثة، فإذا صلى العصر ذهب لشراء الإفطار حتى المغرب فليس هناك وقت للقراءة، والمرأة متى تقرأ؟ لا تقرأ؛ لأنها من الصباح إلى الظهر نائمة، وبعد ذلك إلى المغرب وهي تطبخ، ومن المغرب إلى السحور وهي تأكل، فمتى تقرأ القرآن؟ لا وقت للقراءة، فإذا أتى وقت الإفطار وجدت أمامك سفرة تكفي لأن تكون طعاماً رئيسياً تعجز عن هضمها بطون الجمال فما بالك بمعدة الإنسان! المفروض في السنة أن يفطر الإنسان على تمرات، هذه التمرات والماء -أو اللبن- تقوم بعملية ترويض للمعدة؛ لأن المعدة وقد توقفت ساعات طويلة عن الأكل يحصل فيها ضمور وكسل، فتحتاج إلى تشغيل؛ لكن بطريقة بسيطة (يعني: تحميها مثلما تشغل السيارة، عندما تشغل السيارة تقول: دعها تسخن، لكن لو شغلت ومشيت مباشرة فلن تمشي السيارة)، فأنت تحميها بتمرات وبفنجان ماء -أو لبن- ثم تذهب لتصلي، وعندما ترجع للعشاء تكون معدتك قد أصبح عندها قدرة على الهضم واستعادت نشاطها، ولكن عندما تكبسها مباشرة مع الفطور بالأكل الكامل الذي هو من أعقد الأكل، مثل السنبوسة؛ لأنها محشوة باللحم والبيض والخضار ومقلية بالسمن -فهذه كلها شحوم- وكم يأكل الإنسان؟ هذا الفطور فقط، أربعون قطعة سنبوسة -هذه أكلة المقتصد- وأربعون قطعة من (لقمة القاضي) وثلاث صحون شربة، وكوب عصير برتقالاً، وعصير فراولة، وعصير (قمر الدين) وبعد ذلك يصلي، ثم بعد الصلاة يأتي ليجد سفرة مملوءة بشتى أنواع الطعام ولا بد أن يأكل سواء كان راضياً أو مكرهاً؛ لأن المرأة قد تعبت، وتصيح عليه وتقول: أنا فعلت هذا لمن؟ أتعب طوال يومي من أجل أن تتفرج عليه؟ والله تأكل، والله تأخذ من هذه، فيقول: طيب طيب طيب إلى أن يعبئ معدته ولا يستطيع أن يقوم، وبعضهم لا يستطيع أن يقوم ليغسل، ويقول: اسحبوني أو أعطوني الماء! كيف يصلي التراويح يا أخواني؟!! المؤذن بعد ساعة ونصف من المغرب يؤذن لصلاة العشاء، لكن في رمضان بعد ساعتين، لماذا؟ لكي يتعشى الناس فإذا بدأت الصلاة في المساجد لا يستطيع أن يقوم قال: ابحثوا لنا عن إمام يصلي بنا صلاة مقبولة -يعني: ينقرها في خمس دقائق- وإذا وجدوا إماماً يصلي صلاة طيبة فيها تلاوة وفيها قيام وذكر، مثلما كانت عائشة تقول في رواية البخاري ومسلم، تقول: (ما كان صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة، لكن قالت: فلا تسأل عن طولهن وحسنهن والقراءة فيهن وركوعهن وسجودهن) صلاة وليست مسابقة صلاة صحيحة! لكن يبحث له عن إمام ينقرها نقر الغراب، (الله أكبر، سمع الله لمن حمد، وإذا خرج قال: الله يذكره بالخير، جزاه الله خيراً، هذا هو الإمام الميسر) وإذا صلى مع إمام يصلي صلاة صحيحة قال: الله أكبر عليه! كسر أرجلنا، وكسر ظهورنا، هذا فتان كسر ظهرك؛ لأن بطنك ممتلئة؛ لأن الحمولة زائدة في بطنك، ولو أن بطنك خفيفة لكنت عرفت كيف تصلي، إن مشكلة الصلاة هي مشكلتك أنت في الأكل.
فإذا انتهت الصلاة -صلاة التراويح- ورجع البيت طلب التعتيمة، والتعتيمة هذه سفرة كاملة من الحلويات والمكسرات والمجمرات والمحمرات التي لا يستطيع أحد أن يعدها إلى أن يأتي السحور، فإذا أتى السحور قال: السحور يريد له شيئاً جامداً؛ لأننا سوف نبقى بعد ذلك صائمين، ما هو هذا الجامد؟ قال: شيء يبقى في البطن -لا تهضمه بسهولة- إما عريك وسمن، وإما عصيد ومرق، طيب وكم تأكل، قال: آكل قليلاً، لكن متى؟ قال: قبل الأذان بربع ساعة، لكي ينتهي ونحن نكمل، حتى لا تفوت أي دقيقة.
بل أخبرت الإخوة في الأمس أني كنت في المسجد فجاءني سؤال من شخص يسأل في التلفون، يقول: يا شيخ هل نمسك مع (الله أكبر) في بداية أذان الفجر، أو مع آخر الأذان: لا إله إلا الله؟!! لا حول ولا قوة إلا بالله! يريد أن يأكل حتى مع الأذان، فقلت له: أنت في المغرب إذا أذن تفطر مع (الله أكبر) أو مع (لا إله إلا الله) قال: أفطر مع الله أكبر، قلت: وأمسك مع الله أكبر، فقوله: (الله أكبر) يعني طلوع الفجر، لا يجوز أن تأكل أيها الإنسان! فطوال الليل وهو يأكل، بالله عليكم أهذا شهر صيام -يا أخواني-؟! ومن ضمن أهداف الصيام صحة البدن، وهذا أسلوب علاجي جديد يمارس الآن في الدول الغربية، فإذا رأوا شخصاً عنده علل وأمراض، يقولون: العلاج بالصيام (ممنوع الأكل) لأنهم لا يصومون، ونحن عندنا العلاج بالصيام دين؛ نأخذ كل سنة شهراً لنعطي المعدة إجازة، لنخرج يوم العيد وهي صحيحة ونشيطة، لكن الآن يحصل العكس، فعندما شغلناها بهذه الكميات فإننا نخرج من رمضان والمعدات كلها منتهية، بل إنك في أول أسبوع من رمضان -طبقوا كلامي فوالله إني طبقته أنا ورأيته بعيني- في أول أسبوع اذهب إلى المستشفى وانظر، تجد الأطباء ليس هناك طبيب من أطباء الأقسام أحد، لا حنجرة ولا أذن ولا عظام ولا عيون ولا شيء، إلا أطباء الباطنية، لوحات كلها باطنية، وعلى كل طبيب عشرة مرضى، وكل واحد يقول: بطني يا دكتور بطني! بطنك من يدك يا أخي، اترك الطعام في السفرة، لماذا تأخذه في بطنك ثم تذهب تشتكي، وبعضهم لا يمشي إلا وهو يحبو، وبعضهم يأخذ له مشروبات غازية، ما هذه؟ قال: هذه تهضم، وهي لا تهضم، هذه تخربط بطنك -أيها الإنسان- فأحسن شيء -أيها الإخوة- أن نقتصر على القليل من الطعام، وأن نوفر المال هذا لننفق على الفقراء، يوجد مساكين -أيها الإخوة- في مجتمعنا لا يجدون شيئاً، أعرف كثيراً والله في مكة من الأسر من يمر عليهم الشهر ولا يشمون رائحة اللحم، إلا يوماً في الشهر عن طريق صدقة من جمل -كيلو أو نصف كيلو- يطبخونها ويشمونها فقط، ونحن نرمي -أيها الإخوة- هذه النعم في الزبائل في رمضان وفي غير رمضان! وأنا لا أقول للناس: لا تنفقوا.
أنفقوا لكن في مجال الخير، وليس في الإسراف، وليس في رمي هذه النعم في صناديق النفايات، هذا المفهوم الأول -أيها الإخوة-.
المفهوم الثاني: أن بعض الناس يفرحون برمضان غالباً؛ لأنه شهر السهرات، قال بعضهم: رمضان كريم، ولياليه نريد أن نحييها، (فبضعهم يشكل بشكات البلوت، وبعضهم يشكل بشكات اللعب بأي نوع من أنواع اللعب) فيجعلون ليالي رمضان المباركة؛ ليالي الرحمة، وليالي التنزل الإلهي بالمغفرة، يجعلونها تضيع في الورق، فيتقابلون من بعد صلاة العشاء إلى الفجر للعب (كبوت وخمسين ومائة وسرى وديمن وشرية واسبيت، ويقول كذا، ما هذا؟ قال: خاص، شغلة أطفال، يقولها واحد عاقل كذا، ينزل لسانه مثل لسان التيس، ما هذا الشغل -يا إخوان-؟ وبعضهم يزعل ويرمي الورقة في وجهه، قال: أنت أصلك مغفل وما تعرف تلعب) عجيب! الله أكبر أيها الإخوة! هذا والله من الباطل الذي لا ينبغي أن تضيع الأوقات فيه، وبعضهم على الكيرم، يقول: أنقشها حبة حبة، لعاب أنا مرة، إسرائيل تفجر الذرة ونحن ننقشها حبة حبة، الله المستعان! لا إله إلا الله! ما عندنا إلا (الورق) (والكيرم).
وبعضهم على اللعب، لا عليك! فالذي يلعب ألعاباً رياضية أخف منهم فليس هناك مانع، لأن الرياضة فيها منفعة، فاللهو ينقسم إلى قسمين: لهو ليس منه مصلحة وهو اللعب بالورق وهو الذي يقتل وقت المسلم من غير مصلحة، بل تجلب العداوة والبغضاء بين قلوب من يلعبها، ولهو فيه مصلحة، وهو الرياضة، كلعب كرة القدم، والطائرة، بشرط ألا تلعب في وقت صلاة أو وقت تراويح وألا تلعب مع فسقة أو تكشف عورتك لا مانع، فالرياضة طيبة؛ لأن لها أصلاً في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة والسباق رياضة، وصارع ركانة الباهلي والمصارعة رياضة: (والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أي: إذا عندك قوة في جسدك فأنت أفضل؛ لكن بشرط: أن تكون قوة -أيضاً- في الحق، وا