من أسباب السعادة: أن يكون لك عمل تقضي فيه وقتك وتجمع منه مالاً تقضي به حاجاتك هذا من السعادة؛ لأن البطالة وعدم وجود العمل يولد للإنسان حاجة وفقراً, (كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه بئس الضجيع) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم, إذ لابد أن يكون هذا العمل مباحاً أو طاعة، أما أن يكون حراماً فلا.
لا تبحث عن عمل حرام يسبب لك دخلاً حراماً, وإنما يجب أن يكون العمل شرعياً ومباحاً في الشريعة, ومن أفضل الأعمال التي تزاول على الحياة وظيفتكم أنتم في هذا المعقل العلمي؛ وظيفة التربية والتعليم, فالمعلم هذا ليس صاحب وظيفة وإنما صاحب رسالة, ولهذا إذا دخل في هذا المجال فعليه أن يستشعر الرسالة, وأن يعلم أنه ليس مرتزقاً ولا طالب عيش, بل صاحب رسالة وطالب علم يحمل أمانة ومسئولية, وسوف يتخرج بعد أيام ليسلم أمانة -وهم فلذات أكبادنا- فحينما تستلم التعليم وتدخل الفصل وأمامك ثلاثون طالباً، هؤلاء أمانة الله في عنقك يوم القيامة, فقد جاء بهم آباؤهم وسلمتهم الدولة لك من أجل أن تشكل منهم لبنات صالحة في المجتمع, ولن يكونوا صالحين إلا بصلاحك أنت؛ لأنك القدوة والمثل لهم, ولأن المدرس هو الموجه والمربي وليس الأب, ولذلك الأب إذا سأل الولد فقد يقوم أو قد لا يقوم, لكن المدرس إذا أراد أن يسأل الطلاب، هل يقوم واحد أم الكل؟ أي: إذا قال المدرس: من يجيب على كذا وكذا؟ كل يتشرف أن يلبي غرض الأستاذ وأن يخدمه, لماذا؟ لأنهم يحترمونه ويقدرونه, وإذا قال الأستاذ كلاماً وقال الأب كلاماً، من يصدق؟ يصدق الأستاذ.
قبل فترة كان عندي طفل في السنة الثالثة الابتدائي ويثق في ويعرف أن عندي قدرة علمية وأقدر أن أقنعه، ولذا فبيني وبينه علاقة على الرغم أنه في الثالثة الابتدائي, ومرة قال الأستاذ كلمة -وجهة نظر في قضية من القضايا- وجاء الطفل وقال لي: قال الأستاذ: كذا قلت: لا.
هذه وجهة نظره، لكن الصحيح: كذا وكذا قال: لا، أبداً.
الأستاذ أحسن.
فالأستاذ في نظره أكثر علماً وفهماً، لماذا؟ إنه يقول لي: لو أنك تربيني لكنت درستني في البيت، ولكنك تذهب بي إلى الأستاذ لأنه هو المربي, أي: أنت -مغذي فقط- تعطيني الأكل والشرب والكسوة والتربية اتركها له, ولهذا كان دورك أيها المعلم دور عظيم في بناء الأجيال والأمة, وإذا استلمت على هذا أجراً كان هذا أفضل أجر وعمل, ولهذا يقول الشاعر:
قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أفضل أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولاً؟ المهندس يبني العمارات, والطبيب يبني الأجسام, والمهندس الزراعي يعمل في الأرض, لكن أنت المدرس، ماذا تبني؟ تبني العقول والأجسام والأرواح والقلوب, فمهمتك عظيمة ودورك عظيم, ومهنتك أحسن الوظائف, هذه نعمة من نعم الله عز وجل.
فيجب عليك حتى تكون سعيداً أن يكون لك دخل وعمل مباح، ومثل عملكم ليس مباحاً فقط، بل مشروع ومطلوب وهذا جزء من السعادة, وإلى جانب ذلك ما تتميزون به من مميزات: فوقت العطلات كبير, والدوام قليل, فأنتم تذهبون الساعة السادسة والنصف وترجعون الساعة 12 وكل واحد في بيته, وعطلة رمضان كاملة, والحج تأخذون إجازة قبله, والصيف كله إجازة, وهكذا كل العام أكثره إجازات وهذه من نعم الله عليكم, فهذه نعمة ستشعروها أنتم ولا تغبطون غيركم.
وبعض الشباب يغبط طالباً -مثلاً- في كلية الأمن, يقول: ذهب كلية الأمن ليتخرج ضابطاً, والطبيب كذلك ويقولون: طبيب وعليه الزي الأبيض، والسماعة حول عنقه، ويدخل والناس طوابير على بابه ويكشف لكن اسمعوا ماذا تقول الطبيبة في مجلة اليمامة قبل سنوات، تقول: الساعة السابعة تدق وتدق معها أعصابي وقلبي وراحتي, ثم أخرج وألبس معطفي الأبيض وأركب خلف السائق وأذهب وكأني أذهب إلى قبري أو زنزانتي -أي: غرفتي- وعندما أدخل وأجد الناس ينتظرونني أشعر أنهم يغبطونني وأنا أغبطهم على أنهم ليسوا في مكاني, وتقول: وأجلس على الماسة وأضع السماعة في رقبتي وكأنها حبل مشنقة يلتقط روحي, تقول: وهكذا أجلس طوال حياتي! خذوا شهاداتي! وأوراقي! وأرصدتي! أعطوني جزءاً من السعادة، أريد أن أسمع كلمة ماما! تريد أن تتزوج ويأتي لها طفل صغير يقول: ماما! هذه هي السعادة.
أجل أنت في سعادة في هذا العمل إن شاء الله, وكل إنسان في موقعه الآخر في أي جانب من الحياة سيكون سعيداً إن شاء الله بعمله إذا أداه على الوجه الشرعي، وخدم فيه الأمة على الوجه الصحيح، وأخذ هذا الراتب واستعان به على طاعة الله، فهذا أيضاً يحقق له جزء من السعادة؛ لأننا نتكلم عن السعادة بجميع صورها, إذ لا نريد السعادة في جانب دون الآخر.