أما النعمة الثانية التي وردت في الحديث فهي: (ورد عليَّ روحي) وهي نعمة أخرى تمديداً لخدماتك؛ لأن الروح تُطرد من الجسد مرتين: طرد نهائي، وطرد مؤقت.
فالطرد المؤقت يكون عند النوم، ولماذا تطرد؟ لكي يستريح الجسد، إذ لا يمكن أن يستريح الجسد ويهدأ والروح متضايقاً؛ لأن الجسد مركوب والروح راكب، وهل سمعتم مركوباً لا ينزل عنه راكبه؟ هذا لا يمكن، فالطائرة لا بد أن تقف ويراد لها صيانة، والسيارة لابد أن تقف، والدابة لابد أن تقف، ليس هناك مركوب يمشي ليل نهار ولا يقف، أبداً، كذلك الجسد مركوب، ولذا إذا بقي الراكب موجوداً يتعب الجسد، ولو جئنا بإنسانٍ راجع من عمل أو دوام أو سفر متعب، سهران مثقل محطم وقلنا له: ماذا تريد؟ يقول: أريد أن أرتاح.
قلنا: كم ساعة تريد أن ترتاح؟ قال: أريد أرتاح أربع أو خمس أو ست ساعات.
قلنا: لا.
نعطيك عشرين ساعة، لكن خذ هذا السرير الجميل، وهذا الفراش الوثير، وهذه البطانية الجميلة، خذ هذا وارقد واجلس عليها؛ لكن لا تنم كلما غمضت عينك وقفناك، فهل يرتاح؟ رغم أن السرير ممتاز، وهو لا يعمل شيئاً، مستلقٍ لكنه لا يرتاح إلا إذا نام، وإذا نزلت الروح من جسده، فإذا ذهبت الروح ونام الإنسان ساعة أو ساعتين وأتينا بعد ساعتين، وقلنا له: هل أنت تعبان؟ قال: لا.
الحمد لله، اللهم لك الحمد ذهب التعب، ارتاح الجسم في النوم وعادت له حيويته ونشاطه عن طريق ذهاب الروح، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن ينام الإنسان حتى يعيش الجسد، ويعود مرةً ثانية لمقاومة أتعاب هذه الحياة، ولكن الروح تخرج خروجاً حقيقياً، فلا تبقى الروح في الجسد، والله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر:42] يعني: لم تمت موتاً حقيقياً، فيتوفاها الله أين؟ {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أي: لا يردها {وَيُرْسِلُ} [الزمر:42] فمعنى الإرسال أنها قد خرجت، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث -وهو متفق مع الآية-: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها) هذه الروح خرجت من الجسد وذهبت إلى مكانٍ يعلمه الله لا ندري أين هو الآن، أين تذهب الروح إذا نام الإنسان؟ وردت أدلة أن روح المؤمن تسجد تحت العرش، وأن روح الفاجر -والعياذ بالله- تجتذبها الشياطين وتجول بها ولا تترك بها آفة إلا عذبتها فيها، أما روح المؤمن الذاكر فتذهب تسجد عند الله عز وجل حتى تعود له روحه، فروحٌ تحت العرش وروح في الحمام، كما يقول ابن القيم: أرواح المؤمنين تحت العرش، وأرواح الفسقة والمجرمين أصحاب الغناء والطرب الذين ينامون على المعاصي هؤلاء تذهب أرواحهم إلى الحمام في الأرض، تجول مع الشياطين والعياذ بالله.
الروح إذا خرجت لا يدري الإنسان متى تخرج أولاً، وهناك عالم أمريكي أجرى أبحاثاً دقيقة على النوم، وجاء بإنسان ووضعه في مكان وسلط عليه أجهزة يقيس نبضه وحركته ويضبط كل تصرف يحصل منه، وتركه يُبصر ويريد أن يرى كيف ينام، وجلس عند رأسه وأخيراً وهو جالس يفكر والأجهزة لم يتحرك منها أي جهاز إلا وذاك يرقد داخل الصندوق، وهو جالس يفكر وأخيراً طالت عليه المدة وإذا بالدكتور نفسه قد نام.
وأنا في يوم من الأيام كنت أفكر في النوم فدخلت في الفراش وبعد ذلك أدخلت البطانية تحت رأسي، ودخلتها من تحت (كراعيني) ثم أيضاً دفيتها من تحت جسمي ولفيتها عليَّ وأنا جالس أفكر أقول: الآن يأتي النوم، كيف يأتي النوم ومن أين يأتي هل يدخل من الباب أو (الكترة)؟ والآن قد قفلت على نفسي كيف يخرق البطانية، وأنا أفكر وإذا بي قد نمت وأنا في التفكير ما انتهيت منه فهذه آية من آيات الله.
النوم آية من آيات الله، أخذ الله روحك وكان في الإمكان ألا تعود إليك مرة أخرى، ولكن مدد الله خدماتك وأعطاك فرصة ثانية، وأعطاك إمكانية أخرى لتصحيح وضعك، فرد الله عليك روحك، لماذا تُرد روحك؟ لكي تعصيه، بعضهم يمد يده إلى علبة الدخان قبل أن يفتح عينيه، تراه يبحث عن الدخان ليدخن، وبعضهم يمد يده من وقت أن يستيقظ على الأغنية (يا صباح الخير ياللي معنا) الله لا يصبحك إلا بالخير، مع أنه ما فيه خير، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الله رد عليك روحك من أجل ماذا؟ من أجل تصحيح الوضع، كان بالإمكان ألا تصحو، وكم عرفنا أقواماً ناموا وما استيقظوا، فبما أن الله رحمك وأنعم عليك بهذه النعمة ومدَّد في خدماتك، ورد لك روحك من أجل أن تستيقظ فتستغفره وتشكره وتعمل عملاً صالحاً ينفعك بعد موتك لا أن تقوم فتحاربه، والله ينعم عليك برد الروح وأنت تجازي ربك بمعصيته، فتستيقظ على معصية الله وتستعمل نفسك في معصية الله ولا تقوم إلى طاعة الله.
وتبدأ من يوم تستيقظ إلى أن تنام وأنت شغال في المعاصي، ثم تنام على نية القيام على المعاصي، لا حول ولا قوة إلا بالله، هذه مصيبة.
(ورد عليَّ روحي) رد الروح من أجل النعم التي ينبغي أن تعرف قيمتها، فتقول: يا ربِّ! لك الحمد كما رددت عليَّ روحي، من حقك عليَّ ومن واجبي أن أطيعك، لأنك رددت إليَّ روحي.
قال الحسن البصري وقد مر على جنازةٍ ومعه غلام من رواده ومن مريديه، قال لغلامه هذا: [يا بني! ما ظنك بهذا الميت لو ردت له الروح ماذا سيعمل؟ قال: يطيع الله فلا يعصه أبداً] طبعاً أي شخص مات ثم رد الله عليه روحه هل سوف يعصي الله؟ أبداً لا يمكن، قال: [فكن أنت هو] يقول: اجعل نفسك أنت الذي قد حُملت على الخشب وأنك ذاهب إلى المقبرة، وقد تكون أنت أصغر في السن من هذا الميت، وهل يأتي الموت على حسب الأعمار؟ لا.
ولكن الله عز وجل أماته وأحياك أنت، فخذ من موته عبرة واجعل نفسك أنت المحمول على الأعناق، والآن ردت لك الروح فأطع الله ولا تعصه أبداً.
فالله رد لك الروح من أجل أن تطيعه ولا تعصيه أبداً.
وهذه النعمة الثانية.