علم الآخرة، ولماذا جئنا، وما الهدف من مجيئنا، وأين سنكون بعد أن نموت، هل يمكن أن نتعلم ذلك من رءوسنا بدون معلم؟ لا يمكن، وإذا قمنا ووضعنا علوماً من رءوسنا حول هذه المواضيع تكون علومنا غير سليمة مثل البَدَوِي الذي تعطيه مسألة رياضية وتقول له: حلها لي، يحلها خطأً؛ لأنه لا يعرف يفك الأقواس، ولا المعادلة (س تربيع مع س ص)، فإذا قلت له: والله إما أن تحل المسألة هذه وإلا أذبحك، ماذا يصنع؟ يحلها خطأ، وإذا حلَّها خطأً تصبح النتائج خطأ، وتستمر سلسلة الأخطاء؛ لأنه ليس عنده معلم، وما تعلم ممن يملك العلم في هذا المجال، والبشرية لما أرادت أن تدخل نفسها في علوم لا تعرفها، ولا عندها أهلية العلم بها وقعت في الخطأ، فعندما تسأل نفسها: لماذا جئنا؟ لا تدري بالجواب؛ لأنه ليس هناك معلم يعلمها (لماذا جاء) فما اهتدوا إلى شيء إلا أن قالوا: جئنا لنعيش.
إذاً: تعيشون لماذا؟ قال: نعيش لنأكل.
وتأكل لماذا؟ قال: آكل لكي أعيش.
وأعيش لآكل، وفي حلقة مغلقة ودائرة مستديرة، يأكل ليعيش ويعيش ليأكل.
وبعد ذلك والنهاية؟! قال: والنهاية الموت.
إذاًَ: أنت كنت من قبل ميتاً في العدم أفتخلق من أجل أن تموت؟! لو كان الغرض أن الله خلقك من أجل أن تموت، فقد كنت ميتاً ولم يكن هناك داع لأن تأتي، فلا داعي لأن تحمل بك أمك تسعة أشهر وتضعك كرهاً وتحملك وتربيك، ثم أنت تعاني ثم تتعب ثم تدرس، ثم تعيش ستين أو سبعين سنة، وبعد ذلك تموت، تعيش كل هذه المراحل الصعبة ثم تموت، لا، خطأ، لماذا الجواب خطأ؟ لأنهم لا يعرفون، لماذا جاءوا؟ مثل ما قيل: أين تكونون بعد هذه الحياة؟ قالوا: لا يوجد شيء بعد هذه الحياة، عدم.
من قال لكم لا توجد؟ قالوا: عقولنا.
عقولكم أخطأت؛ لأنكم لا تستطيعون حل المسألة الرياضية مثل ما قلنا، ولا قراءة الرسالة (بالأردية) لأنكم ما تعلمتم من معلم، ولهذا حاولتم أن تحلوا المسائل بعقولكم من غير معلم، ووقعتم في الخطأ.
وقلتم أيضاً: ليس هناك شيء بعد هذه الحياة، ومن قال لكم: إنه لا يوجد شيء بعد هذه الحياة؟ من الذي مات من الناس منذ خلق آدم إلى يومنا هذا وذهب إلى الآخرة واكتشف أنه ليس هناك شيء، ثم بعث ورجع وقال للناس: لا تتعبوا أنفسكم فلا يوجد هناك شيء؟ هل هناك أحد وقع منه هذا الأمر؟ لا أحد، كل من يموت لا يرجع، ولا يعطينا حقائق عما حصل له في القبر من النعيم، أو العذاب، نحن لا ندري، فهل عدم علمنا يؤهلنا إلى أن نقول: لا يوجد شيء، هل أرى أبها الآن وأنا جالس عندكم؟ لا أراها، هل من حقي أن أقول: إنَّ أبها ليست موجودة؟ هل أنا فككت الذرة؟ لم أفكّ الذرة ولا أعرف عنها شيئاً، ولكن درسناها أنها (نيترون) مع (بروتون) وما أدري ما هو، وأنها تتفتت، إذاً هل قمتم بذلك أنتم أو أنا؟ ومدرس العلوم هل فتت الذرة؟ بل ما رآها بعينه، لكنه مؤمن بها ونحن كلنا مؤمنون بها، حسناً هل منكم من زار أمريكا؟ يمكن لا يوجد منا أحد زارها لكننا مؤمنون بها، فمعنى عدم رؤية الإنسان للشيء لا يؤهله ذلك إلى أن يقول: إن هذا الشيء ليس موجوداً.
قصة الجاذبية معروفة، إسحاق نيوتن كان جالساً تحت شجرة يستظل بظلها، فسقطت حبة تفاح من الشجرة فنزلت إلى الأرض، فهو فكر، لأن عنده عقلاً كبيراً، قال: لماذا الحبة عندما انقطعت ما صعدت إلى فوق؟ أو لماذا ما ذهبت شرقاً أو غرباً، أو شمالاً أو جنوباً؟ أو لماذا ما بقيت في مكانها عندما انفكت من غصنها؟ لماذا نزلت؟ عقله سأله، قال: ثقلها.
حسناً، لماذا لم يؤهلها ثقلها لتصعد إلى الأعلى؟ هناك شيء سحبها إلى الأسفل، وبعد تفكير وجد أنها الجاذبية، والجاذبية هذه خاصية من خواص الحياة، فكل شيء على وجه الأرض مربوط بحبال الجذب إليها، هل رأيتم الجاذبية؟ الآن لما انفك (الميكرفون) من يد المدير وسقط على الأرض، من الذي أسقطه؟ الجاذبية، حتى أنتم ضحكتم على تلك السقطة: هل أنتم رأيتم حبال الجذب لما جذبته؟ مثال آخر: القارورة هذه لو أني أفكها الآن أين تسير؟ تسقط، من الذي سحبها إلى تحت؟ الجاذبية، أين حبال الجاذبية، هل ترون شيئاً؟ إذاً: الجاذبية موجودة أو ليست موجودة؟ موجودة.
لو أن شخصاً قال: لا توجد جاذبية ماذا نقول له؟ نقول: هذا أحمق.
يا أخي! عينك لا ترى كل شيء، الجاذبية موجودة لكن عينك لا تراها.
الموجات الصوتية الآن عندما نأتي المذياع ونشغله يعطينا إذاعة القرآن وإذاعة جدة وإذاعة لندن، وكل الإذاعات نسمعها، أغلق المذياع فلن تجد شيئاً، أين كانت كل هذه الأصوات التي أظهرها لنا هذا الجهاز؟ كانت موجودة في الهواء، لكن هل أراها أنا؟ هل أرى الموجة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من جدة، وأرى الموجة ثلاثمائة وخمسة عشر من الرياض، وأرى الموجة الآتية من أمريكا ولندن ومن كل مكان؟ لا أرى شيئاً، لكن من الذي يلتقطها؟ المذياع، إذا فتحنا المذياع هربت الموجات، إذا فتحنا المذياع التقطها، هل عدم رؤيتي للموجات يدعوني للتكذيب بهذه الموجات؟ وإذا كذبت وقلت: والله لا توجد موجة في هذه الصالة لماذا؟ لأني لم أرها.
يقول لي: أنت ما رأيت الموجات لكن المس أثر الموجات بالجهاز.
فليس كل شيء لا تدركه ولا تراه بعينك غير موجود، ولو عملنا بهذه القاعدة في حياتنا لما تعلمنا العلوم، الآن كلكم تدرسون ويأتي أستاذ الجغرافيا بخريطة العالم، ويضع الخريطة هكذا كوسيلة إيضاح، ويأتي بالمؤشر ويقول: هذا البحر الأبيض وهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، وهذه أمريكا، وهذه كندا بجانبها، وهذه أمريكا الجنوبية، لو قام أحد الطلاب وقال: لا تلعب علينا أرجوك، ولا تضيع أدمغتنا، أين أمريكا؟ لا يوجد هنا إلا ورقة مصبوغة، والله لا وجود لـ أمريكا ولا روسيا ولا يوجد نهر ولا بحر ولا شيء، وكذَّب بهذا الموضوع، ما رأيكم هل تنتشر العلوم؟ وهل يمكن أن تقوم حضارة للأمم؟ نقول لهذا: يا مغفل! لا نستطيع أن نذهب بك لتنظر إلى العالم كله، ونركبك طيارة لتنظر إلى كل دولة بعينك، فليس كل شيء يجب أن تراه العين، وإلا أيضاً بالمنطق هذا نفسه لو سألتكم وقلت لكم: أنا عاقل.
تقولون لي أنتم: ما تعقل به؟ أقول: أعقل بعقلي، وهذا العقل هنا في المخ.
وتقولون أنتم لي: لا ليست بعاقل.
لماذا؟ أنا عاقل أتصرف وأتكلم تصرف العقلاء وكلام العقلاء، تقولون: أين عقلك؟ خذ فأساً واضرب به رأسك وأرنا إياه حتى ننظر، وإلا لحكمنا عليك بالجنون لأنا ما رأينا عقلك.
أجل، العين ليست وسيلة الإدراك، وإنما هناك وسائل مسعفة لتدرك بها الأشياء ولتطل منها على عالم الأشياء، وهي ما يسمى بالحواس الخمس، العطر مثلاً إذا أردت أن تعرف نوعيته: عودي أو وردي أو أي نوعية، تضعه عند عينك أو عند أنفك؟ تضعه عند أنفك، لكن لو وضعته عند عينك، هل تشم عينك رائحة العطر؟ لا.
وكذلك إذا أردت أن تعرف طعم التفاحة أين تضعها عند أنفك أو في فمك؟ في فمك؛ لأن لسانك عنده قدرة على معرفة عالم الأطعمة، والأنف عنده قدرة على الإطلال على عالم الروائح، والعين عندها قدرة الإطلال على عالم الأشكال والألوان، اليد عندها قدرة وإدراك للإطلال على عالم الأجسام تحس، وما ليس بجسم تلمسه ولا لون تراه، ولا رائحة تشمه، ولا طعم تذوقه، ما تدركه بالحواس الخمس، فماذا تفعل؟ ترفضه؟ لا، قبل التخيل هناك وسيلة اسمها وسيلة الأثر.