الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! أنفاس هذه الحياة معدودة، وساعاتها محدودة، ونفس يذهب فلا يعود، وساعة تمشي ولا ترجع، وأهوال تنتظرك -أيها الإنسان- يوم القيامة:
يوم عبوس قمطرير هوله فيه تشيب مفارق الولدان
فاتقوا {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:17 - 18] وهناك أسئلة واختبارات صعبة جداً لا ينجح فيها إلا من ثبته الله عز وجل، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المثبتين في الدنيا والآخرة.
والناس في هذا الزمان -وفي كل زمان- الكثير منهم شغلوا أنفسهم أو تشاغلوا بما لا ينفعهم في الآخرة، وهذا من الفضول أن تشتغل بشيء لا ينفعك دنيا ولا آخرة، ويسميها العلماء علوم الفضلة التي الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع، إن علمت بها لم تنتفع، وإن جهلت بها لم يحصل عليك ضرر، وغالب الخلق في هذا الزمان ضالون بناءً على كيد من الشيطان ومكرٍ منه واستدراجه؛ لأنه العدو اللدود الذي أقسم أن يغوي الناس أجمعين، وأن يقعد لهم صراط الله المستقيم، وأن يأتيهم من بين أيدهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
هذا الشيطان سول للناس وأملى لهم، وزين لهم قضية تضييع الأوقات في ما لا ينفع، وهناك أمثلة كثيرة مما يضيق الوقت عن الحديث عنه، ولكن مثال واحد وهو ما تعود الناس أن يقرءوه في كثير من الصحف والمجلات ما يسمونه بالكلمات المتقاطعة، في جريدة أو مجلة يتعب الإنسان عقله ويجهد فكره في البحث عن هذه الكلمة أفقية كانت أو رأسية، وثم الكلمات التي توضع في هذه المربعات كلها مما لا ينفع بل ربما العلم بها يضر عندما يأتيك ستة مربعات ويقول: النصف الأول من اسم مغنٍ أمريكي مشهور، فما يهمك من اسم كافر ينعق في أقصى أرض الله؟! فتجهد نفسك على هذا السؤال الفارغ على أن تتعرف على أسماء المغنيين الأمريكيين حتى تصبح عندك أرصدة كبيرة من الثقافة بحيث إذا سئلت عن النصف الأول من اسم هذا المغني الكافر عرفته، وبعضهم يقيس ثقافته على مقدار قدرته على حل هذه الكلمات المتقاطعة، وإذا استطاع في النهاية حلها رفع رأسه تيهاً وعجباً وفخراً أنه استطاع أن يحلها، ولو سألته عن آية في كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسألة علمية من مسائل الفقه الإسلامي لوجدته أجهل من حمار أهله، ولكنه في الكلمات المتقاطعة يفهم، هذه الكلمات المتقاطعة الجهل بها لا يضر والعلم بها لا ينفع.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا عن الأسئلة التي ستكون لنا حتى نستعد لأدائها والإجابة عليها يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا هو السؤال الهام: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص:66] عميت عليهم، اسودت في وجوههم، أظلمت أفكارهم؛ لأنها أخبار عجيبة، أخبار كانوا في غاية من الضلال عنها، لم يكونوا يرفعون بها رأساًَ، وما كانوا يحاولون أن يتعرفوا عليها بل كان همهم في غيرها، فهنا أصبحوا عمياً عنها، لما كانوا عمياً عنها في دين الله في الدنيا قال الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:72] وأيضاً يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] فالسؤالان هما: ماذا أجبت المرسَل؟ أي الرسول صلى الله عليه وسلم، وماذا كنت تعمل؟ وجواب الأول هو: متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد المتابعة له، وجواب الثاني وهو ماذا كنتم تعملون؟ بتجريد عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
وهناك سؤال ثالث يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] تسألون عن هذا الذكر أي: القرآن، تسألون عن هذا الكتاب الكريم الذي أنزله الله نوراً وهداية للعالمين، تسألون عنه: عن حلاله وحرامه، وعن آياته وحدوده، وعن كل ما أمر الله به، وعن كل ما نهى الله عنه، وعن كل ما قص الله من خبر، وكل ما جاء فيه من حقائق: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
فستُسأل -يا أخي- عمن كنت تعبد؟ وماذا أجبت الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وعن هذا القرآن الكريم؟ والناس -وخصوصاً بعض الشباب- الذين وفقهم الله وهداهم وأقامهم على الصراط المستقيم ونور بصائرهم يشعرون ببعض الفراغ، وأيضاً لديهم حماس وتطلعات لخدمة الدين، ويريدون أن يقفزوا قفزاً، وأن يتجاوزوا أكثر من أحجامهم فيصبحون (كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).