أيها الإخوة الكرام! إن هذه الكلمة (الله أكبر) إذا قالها المؤمن حقيقة، وذاق طعمها وأدرك معناها كانت حاجزاً بينه وبين التورط في المعاصي والسيئات، حاجزاً بينه وبين انتهاك الحرمات، فإنه -يا إخواني- لا يضيع ما فُرض عليه ويرتكب الكبائر إلا من قل خوفه من الله جل وعلا، وإنما يقل الخوف من الله تعالى بسبب ضعف التعظيم له جل وعلا، فالتعظيم يصدر عنه الخوف والورع، والعبد الخائف إنما يخاف عظيماً، يخاف من امتلأ قلبه بإجلاله وتقديره، أما ذاك القلب الذي خوى من تعظيم الله سبحانه وبحمده، وخوى من إجلال الله جل وعلا، وليس عنده لربه قدر ولا عظمة، فكيف ينزجر عن المعاصي؟! وكيف ينزجر عن السيئات؟! وكيف يحفظ نفسه من انتهاك الحرمات؟! إنه لا سبيل له إلى ذلك، واستمع إلى هذا الخبر: روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه في نبأ ثلاثة نفر من بني إسرائيل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما ثلاثة نفر يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم -ولم يتمكنوا من الخروج- فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرج عنكم بسببها) فذكر كل واحد منهم عمله، وكان منهم رجل عمله شاهد لنا في تعظيم الله جل وعلا، وكيف أن التعظيم سبب للابتعاد عن المعاصي؛ لأنه يورث التقوى، ويورث الخوف، ويعقب القلب إجلالاً لله عز وجل.
(قال الثاني منهم: اللهم إنها كانت لي ابنت عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها، فأبت علي، حتى أحوجها الفقر، فأعطيتها عشرين ومائة ديناراً، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه) ما الذي حال بينه وبين مراده ومطلوبه، وقد بذل المال ومكنته من نفسها؟ حال بينه وبين مراده أنها قالت له: (يا عبد الله!) فذكرته بمن هو عبد له، ذكرته بالله: (يا عبد الله! اتق الله) أي: اجعل بينك وبين الله وقاية بامتثال أمره، وترك نهيه، رغبة ورهبة، (اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا، ففرج عنهم فرجة)، فهذا -يا إخواني- ما الذي حمله على هذا الفعل؟ وما الذي كفه عن المعصية بعد أن تمكن منها؟ وما الذي منعه مما سعى له وخطط وليس بينه وبين مبتغاه حائل؟ لا مانع له إلا قيام تعظيم الله في قلبه، ما منعه إلا ما كان في قلبه من كبرياء ربه الذي أورثه خوف ربه، ومراقبته سبحانه وتعالى، فانتفض قائماً لله تعالى يرجو ثوابه ويخشى عقابه، وهكذا يكون خوف الله وتعظيم الله مثمراً للفضائل، فكل الفضائل من الخوف والمراقبة والخشية والإنابة والدموع المنهمرة والأقدام الماشية في طاعة الله إنما تكون بالتعظيم الذي يصحبه محبة لله جل وعلا.
(الله أكبر) أيها الإخوة! تحمل المؤمن على أداء الحقوق طيبة بها نفسه، فكم هم الذين شحوا في حقوق واضحة كالشمس؟ إنهم كثير مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور ذلك الموقف العظيم الذي يحشر الناس فيه حفاة عراة غرلاً أحوج ما يكونون إلى رحمة الله وفضله: (إذا اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، والصحابة رضي الله عنهم فهموا أن هذا في الأمور الكبيرة، في سلب أرض أو عمارة أو ملايين مملينة فقالوا: يا رسول الله! ولو عود أراك -سواك-؟ قال: (ولو عود أراك) سبحان الله العظيم! يعني: لو تأخذ من أخيك المسلم عود أراك وهو لم تطب نفسه بهذا لقيت الله رب السموات والأرض وهو عليك غضبان، فأين تعظيم الله جل وعلا من هؤلاء؟! أين تعظيم هذا الموقف في قلوب هؤلاء؟! لو أنهم أكرموا الله جل وعلا لكانوا كذاك الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل.
واستمع إلى قصة هذا الرجل ففيها إجلال الله وتعظيمه، مما يدل على أن من عظَّم الله فإن الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل جاء إلى رجل فطلب أن يسلفه ألف دينار، فسلفه، فقال له المسلِف -صاحب المال-: ائتني بالشهداء أشهدهم على هذا القرض، فقال له الرجل: كفى بالله شهيداً -يكفيك شهادة الله جل وعلا- قال الرجل صاحب المال: فأتني بكفيل -يعني: ائتني بمن يضمن المال لو تعذر وفاؤه، أي: ائتني بشخص يكفلك- فقال له الرجل: كفى بالله كفيلاً، فقال له الرجل صاحب المال: صدقت.
فهذا الذي أعطى المال لولا عظمة الله في قلبه ما قبل إلا الشهادة، ولولا أن الله في قلبه عظيم ما قبل ذلك، ولكان يقول: لابد أن تأتي بشهداء وإلا ما أقبل، والمسألة إحسان، ما فيه إلزام، وليس عقداً يلزمه فيه، إنما هو إحسان قرض، وإنما قال: صدقت، فدفع الألف دينار إلى الرجل إلى أجل مسمى، فخرج الرجل المدين إلى البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً، يعني: أناساً يسافرون إلى الجهة التي فيها الدائن، التمس مركباً يركبه يقصد به الرجل من أجل الأجل الذي أجله، يعني: الموعد الذي حدده بينه وبين الدائن، فلم يجد مركباً، ولا يمكن أن يخوض البحر سابحاً إلى أن يصل إلى صاحبه، فأخذ خشبة وأدخل فيها ألف دينار -المبلغ الذي يطلبه صاحبه- وصحيفة -يعني: كتاب- كتب فيه لصاحب الدين، ثم رمى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت اقترضت من فلان كذا وكذا فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك -انظر الإشارة إلى التعظيم- وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني اجتهدت أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي له فلم أقدر، وإني استودعكها.
أي: أستودعك هذا المال، وأجعله وديعة عندك، فرمى بها في البحر ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركباً يذهب به إلى صاحبه، يعني: ما قال: الذي بيني وبين الله انتهى، بل عاد وهو ينظر متى ييسر الله له مركباً يركبه حتى يذهب إلى صاحبه؛ لأنه يمكن أن هذا الذي بعثه في البحر لا يصل، يقول: ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الدائن الذي كان أسلفه إلى البحر لعله يجد المركب الذي يقدم فيه هذا الرجل ليوفيه حقه لما جاء الأجل، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل المدين إلى صاحب الدين بعد حين، وقال معتذراً عن التأخر: إني اجتهدت في طلب مركباً لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟! فما قال: أنا فعلت كذا وكذا؛ لأنه يتعامل مع الله جل وعلا، ولا يدري هل وصلت أو ما وصلت، وإنما غرضه إبراء ذمته، غرضه أن يقدم على الله وليس في ذمته لأحد شيء، فقال له الدائن: هل كنت بعثت إلي بشيء قبل؟! قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه.
قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، لا حاجة لي فيها، والدين الذي عليك قد أديته.
يا إخواني! هذا الخبر الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ما غرضه وقصده؟ غرضه بيان عظمة الله جل وعلا، وأن المعاملة مع الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخاف صاحبها، ولا يمكن أن يخسر الداخل فيها؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة بديعة نفيسة في بيان كيف يتعامل الإنسان مع الناس: (الناس إشكالاتهم كثيرة، ونواياهم مختلفة، وإيمانهم باليوم الآخر على درجات، وإيمانهم بالله وخوفهم منه على درجات، فكيف تسلم مع هؤلاء كلهم وفيهم التقي ومن دونه؟ تسلم بأن تعامل الله عنهم، ولا تعاملهم في الله) يعني: أنت في معاملتك للخلق لا تنظر إلى ما الذي يأتيك منهم، إنما انظر إلى ما الذي يعطيك ربك في معاملتك لهم، وما الذي يأمرك الله عز وجل به في معاملتك للخلق، فإذا كنت كذلك فاعلم أنك فائز في معاملتك، رابح في تجارتك، سالم من شرور الناس، فلا سلامة للإنسان من شرور الناس إلا بأن يلجئ إلى الله عز وجل.
(الله أكبر) كلمة إذا قالها المؤمن صادقاً فجرت في قلبه ينابيع الحكمة، ولقي فيها ومنها خيراً كبيراً لا يقف منه على حد؛ ولذلك تجد التكبير مقترناً بالتهليل لما فيهما من عظيم حق الله جل وعلا، فالعبد يثني على الله جل وعلا ويقدسه ويمجده ويذكره، ولكنه مع ذلك كله يقر بأنه لن يؤدي حق لربه جل وعلا، حتى لو أفرده بالعبادة، حتى لو لم يكن في قلبه سوى ربه جل وعلا، فإنه في كل ذلك لن يفي ربه حقه كما تقدم في ثنايا الكلمة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا تعظيمه، وأن يلقي في قلوبنا محبته، وأن يجعلنا من عباده المتقين، ومن حزبه المفلحين، وأولياءه الصالحين، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين إليك راغبين راحلين إليك أواهين منيبين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المتقين، اللهم وفقنا للبر والتقوى، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا.
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، وارزقنا تعظيمك، واحفظنا -يا رب العالمين- فيما بقي من أعمارنا، اللهم وأختم لنا بخير، وأعنا على الخير، ووفقنا إليه، وحببه إلينا يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.