بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا، فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير.
هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.
ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.