ومما يؤكد لكم ذلك الأحاديث المشهورة التي منها ما نبتدئ بها دروسنا: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
من عجائب الأمور التي نلاحظها، والتي تؤكد لنا صحة منهجنا وخطأ منهج غيرنا: أنك لا تجد خطيباً من الخطباء يحافظ في خطبته على هذه الخطبة، التي هي من خطبة الحاجة التي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها دائماً وأبداً، لماذا؟ لأن أبسط إنسان سيقول له: من صعود الخطيب إلى خروجه من الصلاة كلها بدع وخلاف هدي الرسول، وهذا الذي أنت تدعو إليه، ولذلك الشيطان أوحى إليهم: كونوا متجاوبين، لا تكونوا متنافرين في أنفسكم، تصعد إلى المنبر تخطب: خير الكلام كلام الله، وتختمها: وكل ضلالة في النار، وأنت تقول: لا.
هناك بدعة حسنة، ورسولك يقول، وأنت تنقل عنه: (وكل ضلالة في النار) هذا تناقض، لذلك زين لهم سوء عملهم، ونشأ من شريعتهم هذه السنة التي واظب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام.
لذلك فأنا صار عندي مبدأ: بمجرد ما أسمع خطيباً يفتتح الخطبة بهذه الخطبة أقول: هذا لا بد، وأنا ما أقول سلفي، لكن عنده سلفية، وإلا فليس من الممكن أن يكون عنده بدعة حسنة ويأتي يخطب في الناس ويقول: وكل ضلالة في النار.
فهذا من الأحاديث الدالة على خلاف ما يراه المتأخرون المقلدة -وليسوا مجتهدين أبداً باعترافهم- من أن هناك بدعة حسنة، ثم يتجرءون لجهلهم بل لغباوتهم ويقولون: يا أخي! هذا نص عام لكنه مخصص.
كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقولون: ذلك مخصص.
أولاً: لا نعلم في ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من جوامع الكلم مثل هذا التعميم ثم يدخله تخصيص، ولفظة (كل) من أصرح ألفاظ العموم والشمول: (كل بدعة ضلالة) ، أقول دائماً وأبداً بهذه المناسبة على وزن قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) هل من الممكن أن يقول قائل: ليس كل مسكر خمر، وليس كل خمر حرام؟ مستحيل هذا الكلام! وهناك كليات كثيرة: (كل بني آدم من تراب، ويتوب الله على من تاب) ، لا يمكن أن إنساناً يقول: ليس من تراب، فأصله من تراب وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) .
إذاً: كل من أطاع الرسول عليه السلام دخل الجنة.
هذه الكليات لا تقبل التخصيص، وهذه الكلية جاءوا إليها فحطموها، وقالوا: ليس الحديث على عمومه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية العارف بالله حقاً، ولا أدري هل نثني عليه خيراً حينما نصفه بما يصف غيرنا بعض كبارهم، حينما نصف ابن تيمية بأنه العارف بالله حقاً، ما ندري أنذمه أم نثني عليه! لكن إنما الأعمال بالنيات؛ لأنه حقيقة هو عارف بكتاب الله وبحديث رسول الله، يقول: رسول الله في كل خطبة جمعة فضلاً عن خطب أخرى يقول فيها: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ، تأكيداً وتقريراً لهذه القاعدة، ثم يأتي هؤلاء في أبسط حماقة ويقولون: لا.
هذه ليست عامة، ولا مرة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما كل ضلالة بدعة، فهو دائماً يؤكد، وتكرار الجملة العامة على اختلاف الملابسات والمناسبات من حيث الأسلوب العربي، تأكيد أن هذا الكلام -كما أنكم تسمعون- لا يقبل تأويلاً ولا تقييداً ولا تخصيصاً إطلاقاً.
فهنا يقول: (كل بدعة) هذه كلية، وهناك يقول: (من أحدث) ، أيضاً: (من) : مِن صيغ العموم والشمول، ومعنى: من أحدث أي: كل من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد، والبحث في هذا طويل، ولكن أذكّر أيضاً بأثر عن صحابي جليل، كان بارزاً من بين الصحابة بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لاتباعه واتباع سنته، فسر لنا الجملة الأولى: (كل بدعة ضلالة) تفسيراً سد الطريق على هؤلاء المبتدعة، فهم يقولون: كل بدعة ضلالة، وهذا يأتي فيرد عليهم، وكأنما الله عز وجل قد كشفها عن بصيرته، ولو كنا نؤمن بالكشف الذي يقول به الصوفية وأتباعهم لقلنا: انكشف له؛ لأنه سيأتي أناس من بعدهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وأن قول الرسول: (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص، كشف له ذلك فأجابهم سلفاً، فقال: [كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة] ، فأين تذهبون يا مقلدون؟ وعلى فرض أنه أخطأ هذا الرجل وهو من كبار الصحابة، فنحن نقبل ولا نقول بالعصمة، لكن لا نرد كلام الصحابي الواحد -فضلاً إذا كانوا أكثر- بمجرد أن يرد عليه مقلد، بل ولو كان مجتهداً إلا بالدليل، فكيف ذلك وهناك من الصحابة من يقول وهو حذيفة بن اليمان: [كل عبادة لم يتعبدها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها] ، عدوا العبادات التي يفعلها الناس اليوم، واطلبوها من كتب التقليد وليس كتب السنة، سوف لا تجدون لها ذكراً، لماذا؟ لأن المقلدين -أنفهسم- الذين هم علماء بأقوال أئمتهم من قبل ما سطروا هذه البدع، وكل يوم تأتي بدعة جديدة، لماذا؟ لأن خرج البدع لا يكاد يمتلئ أبداً، فهو واسع جداً، والشيطان للناس بالمرصاد، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما خط خطاً مستقيماً وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] خط الخط المستقيم وخط على طرفيه خطوطاً كثيرة، وقال: (هذه الخطوط للشيطان طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه) ، فشياطين الجن فضلاً عن شياطين الإنس لا يزالون أحياء يقومون بوظيفتهم، ولذلك فالسعيد من يستعصم ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ما هي العروة الوثقى؟ الكتاب والسنة.
ولعل في هذا الخبر الكفاية، وإن كنت أشعر -كما قلت لكم في مبتدأ الكلام- أن موضوع البدعة في الإسلام يحتاج إلى محاضرات عديدة، فعساني في درس آتٍ -إن شاء الله- أتبع البحث هذا ببحث متمم أو مكمل بعضه على الأقل بأدلة أخرى نذكر بها الإخوان، ونعالج شبهات المتأخرين التي يتمسكون بها لرد هذه الأساطين من الأدلة في أنه ليس في الدين بدعة حسنة.
وقد ذكرنا لكم بعض الأحاديث والآثار التي تنهى المسلم عن الابتداع في الدين، ولا أدري إن كنت ذكرت لكم شعور وانتباه ذلك الرجل الذي كان من أحبار اليهود، الذي تنبه لهذه النعمة وعظمتها على المسلمين، حين جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال ذلك الحبر اليهودي: يا أمير المؤمنين! آية لو أنها علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيداً، قال: ما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، فقال عمر رضي الله عنه: [لقد نزلت يوم عيدنا، نزلت يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات] .
ومعنى هذا الكلام من هذا الحبر اليهودي أنه عرف بالغ أهمية هذه النعمة التي امتنَّ الله بها على عباده المؤمنين، حيث أكمل لهم الدين؛ ذلك لأنه سيفرغهم لأن يعملوا لشئون حياتهم، وأن يتفرغوا لها بعد قيامهم بواجبات ربهم، فأغناهم بهذا التشريع الكامل أن يتوجهوا إلى التشريع والتقنين الذي ليس من اختصاصهم وإمكانياتهم؛ ذلك لأن الإنسان كما وصفه ربنا في القرآن: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] ، فالإنسان لا ينظر بالنسبة لما يتعلق بمصالحه المستقبلة إلى أبعد من أرنبة أنفه -كما يقول المثل العربي- فلذلك نجد كل الذين يسمونهم بالمشرعين والمقلدين في كل بلاد الدنيا، كل يوم يأتوننا بدستور، وكل يوم يأتوننا بقانون؛ وذلك لأنه يتبين لهم بالتجربة العملية أن هذه القوانين بل الدساتير لا تقوم بمصالح العباد.
ذلك الحبر اليهودي فعلاً كان من العلماء حينما عرف هذه النعمة وقدرها، فجاء ليقول لـ عمر بن الخطاب: لو علينا نحن اليهود نزلت هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً، فأخبره عمر بأنها فعلاً نزلت في يوم عيد، ألم يكن المسلمون أحق وأولى بأن يعرفوا فضل هذه النعمة من ذاك اليهودي؟ لقد كان الأمر كذلك، وكان كذلك بالنسبة للسلف الأول، فقد كانوا أبعد الناس عن الإحداث في الدين ما ليس منه، ومن هنا تبين المرتبة التي وصل إليها اهتمام السلف في إنكار البدعة.
فماذا يقول هؤلاء لو بعثوا في زمننا هذا، ونظروا إلى هذه البدع التي لا يمكن إحصاؤها؛ لأنها بالألوف المؤلفة؟ لا شك أن إنكارهم سيكون بالغاً جداً جداً على هؤلاء المحدثين لهذه البدع، وأنهم سيذكرونهم بأن هذا الإحداث في الدين هو تشريع، والتشريع إنما هو من حقوق رب العالمين تبارك وتعالى.