إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
نعود بعد توقفنا السابق إلى كتابنا الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، ونحن على شرطنا الذي طالما ذكرناه وذكرناكم به مراراً وتكراراً، وهو ألا نسمعكم من أحاديث هذا الكتاب إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على طريقة علماء الحديث، من حيث ثبوت السند، وثقة الرواة والرجال، وكان درسنا الأخير وصل إلى الحديث التاسع والعشرين من كتاب: الترغيب في عيش السلف التاسع والعشرين بالنسبة للطبعة المنيرية، فقال المصنف رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) .
الشاهد من هذا الحديث المناسب لهذا الباب الذي نحن فيه إنما هو طرفه الثاني، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) يعني: إلا شيء من خبز يابس من الشعير كما علمتم من الأحاديث السابقة، وهذا الحديث سواءً بطرفه الثاني أو الأول إنما هو كناية، بل دليل واضح على شدة ما ابتلي به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل دعوته دعوة الحق، دعوة التوحيد التي جاهد المشركين في سبيلها أكثر من عشرين سنة، ولاقى في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب والجوع، وهذا ما يصف به نفسه عليه الصلاة والسلام بقوله أنه أوذي أذى لم يؤذ أحد بمثله، وأخيف أيضاً إخافة لم يخف مثله سواه عليه الصلاة والسلام، وكذلك لقي من الجوع ما لا يكاد يتصور؛ وذلك أنه مضى عليه صلوات الله وسلامه عليه ثلاثون يوماً بليلها ونهارها، ولا يجد من الطعام إلا ما يحمله بلال خادمه ومؤذنه تحت إبطه، وهذا كناية عن أن هذا الشيء الذي يحمله من الطعام هو شيء قليل؛ لأنه ما الذي يستطيع أن يحمله الإنسان في هذه المدة الطويلة تحت الإبط إلا أن يكون كسرات من خبز، أو تمرات من تمر تلك البلاد.
فإذاً: يجب علينا أن نأخذ من هذا الحديث ومن أمثاله من أحاديث سبقت، وأخرى تأتي: أسوة لنا برسولنا صلى الله عليه وسلم، فنصبر في سبيل الدعوة، ولا نتكلف التعب، والنصب، والمشقة؛ لأن ذلك ليس أمراً مرغوباً في الشرع، ولكن علينا إذا أصبنا في سبيل دعوتنا بشيء من ذلك التعب والنصب أن نصبر على الجوع، والعطش، والأذى، والأمر كما قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فليست الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم محصورة بالاقتداء بصلاته وصيامه وسائر عباداته فحسب، وإنما الأسوة به صلوات الله وسلامه عليه تشمل كل نواحي الحياة فهي تشمل الأسوة به في عبادته، وكذلك في خلقه، وأيضاً في صبره وفي تحمله المشاق في سبيل دعوته، كل ذلك مما يجب علينا أن نتخذ فيه نبينا صلوات الله وسلامه عليه أسوة حسنة لنا.
هذا الحديث صحيح، ويقول الحافظ المؤلف: رواه الترمذي، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال المؤلف: ومعنى هذا الحديث حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من مكة ومعه بلال، إنما كان ما مع بلال من الطعام ما يحمله تحت إبطه.