الشطر الثاني من
Q هل المسلم ملزم بالاجتهاد؟
صلى الله عليه وسلم ملزم وغير ملزم، بمعنى: أن ذلك يختلف باختلاف المسلم من حيث علمه وثقافته وقدرته واستعداده، وكل ذلك يجب أن يلاحظ حينما يقال: يجب على المسلم أن يجتهد.
أنا كنت -كما سمعتم ربما- في المدينة المنورة، وهناك أناس يدعون بدعوتنا إلى الكتاب والسنة؛ ولكن هم مبتدئون في الطريق، وبحاجة إلى علمٍ كثير، فهم يقولون بوجوب الاجتهاد على كل مسلم، دون أي تفصيل، والتفصيل: واجب على كل عالمٍ مسلم أن يقوم به، حتى لا يقع في إفراط أو تفريط، فقد قلت لهؤلاء ولغيرهم سابقاً ههنا: إن التقليد الأصل فيه أنه لا يجوز، والأصل أن المسلم -أي مسلم كان- يجب أن ينطلق في حياته الإسلامية على بينة وعلى بصيرة من دينه، كما قال ربنا عز وجل في كتابه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فلئن كان قول الله تبارك وتعالى حكاية على لسان نبيه: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، إن كان هذا نصاً عاماً يشمل كل متبعٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] إذا كان هذا النص: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] نصاً شاملاً لكل مسلم، فلا شك حين ذاك أنه يجب على كل مسلم أن يكون على بصيرة من دينه، فهذا هو الأصل، لا فرق في هذا بين عالمٍ، ومتعلمٍ، وغير متعلم؛ كما جاء في بعض الآثار الموقوفة: [كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن الرابعة فتهلك] لا فرق في هذا بين طبقات المسلمين من حيث ثقافتهم؛ لأنه يجب على كل منهم أن يكون على بصيرة من دينه، للآية السابقة وغيرها مما يؤدي مؤداها، ولكن قد لا يستطيع كل مسلم أن يكون على بصيرة في كل مسألة، فحينئذ يعمل ما يستطيع، وأنا قلت لأولئك الأشخاص: إن كثيراً من العلماء المجتهدين يقلدون في بعض الأحايين مضطرين، فالعلماء المجتهدون يقلدون أحياناً؛ لكنهم إنما يفعلون ذلك اضطراراً، وقلت أيضاً: ليس التقليد من حيث أنه ينافي التبصر في الدين بأشد تحريماً مما نص الله عز وجل في القرآن على تحريمه، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] إلى آخر الآية، ولكن هذا التحريم منوط ومربوط بالاستطاعة، لأن القاعدة القرآنية تقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فإذا كان الإنسان في وضع لا يستطيع إلا أن يواقع شيئاً من هذه المحرمات الثلاث المذكورة في الآية السابقة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] فاضطر إلى شيء من هذه المحرمات، فليس ذلك بحرامٍ عليه؛ لقوله في تمام الآية: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وبمثل هذه الآية وغيرها جاءت القاعدة الفقهية الإسلامية: (الضرورات تبيح المحظورات) .
أعود لأقول: التقليد ليس أشد تحريماً من هذه المحرمات وأمثالها، فإذا كانت هذه المحرمات تباح للضرورة؛ فالتقليد كذلك يباح للضرورة، ولذلك فكما أنه لا يجوز المغالاة في تحريم التقليد ألبتة في كل الحالات والصور كما ذكرنا آنفاً، فيستثنى من التحريم حالة الاضطرار، كذلك لا يجوز بداهة أن نجعل حالة المسلمين عامة، وفيهم العلماء، والشيوخ، وأهل العلم، والفضل -كما يقولون- أن نجعل حالتهم حالة اضطرار، كما لو قلنا: المسلمون اليوم مضطرون لأكل هذه المحرمات، هذا لا يقوله إنسان؛ لأنهم يعيشون في وضع طبيعي، فهم يستطيعون أن يأكلوا مما أحل الله لهم من غير هذه المحرمات، فكيف يقال: إنهم -والحالة هذه- مضطرون لأكل الميتة والدم ولحم الخنزير؟! هذا لا يقوله إنسان فيه ذرة من عقل، كذلك لا يصح أبداً أن نقلب الوضع فنقول: المسلمون اليوم كلهم -بما فيهم أهل العلم- مضطرون للتقليد؛ لأنهم لا يستطيعون الاجتهاد، هذا قلب لما يجب أن يكون عليه وضع العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيه الناس طبقات، عالم، ومتعلم، ومستمع، فكيف نجعل كل الطبقات اليوم هي الطبقة الدنيا وهو مستمع فقط، يسمع الكلمة ويتلقفها، ثم يعمل بها؟ أما من أين جاءت؟ ما أصلها؟ ما فصلها؟ ما دليلها؟ أهو الكتاب أم السنة؟ أهو القياس؟ وهل هذا القياس قياس جلي أم خفي؟ وهل هو قياس صحيح أو قياس أولوي؟ أو ما أشبه ذلك فهذا لا تستطيعه هذه الطبقة الدنيا طبقة المستمعين إنما يستطيع ذلك طبقة أهل العلم.
إذاً: التقليد في الوقت الذي هو حرام، ويجب على كل مسلم أن ينجو منه بقدر استطاعته؛ إلا أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.