منهج أهل السنة في الأخذ باجتهادات المتقدمين من أهل العلم

Q يتهمونك بأنك لا تأخذ بأقوال الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، أو إن صح التعبير: باجتهاداتهم الفقهية، فما صحة ذلك؟

صلى الله عليه وسلم يقصد أننا نأخذ باجتهاداتنا الفقهية، أسأل الله أن يوفقنا والله المستعان.

أقول: إن الذين يتهموننا بهذه التهمة شأني معهم كما قال الشاعر:

غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم

غيري جنى: غيري الذي لا يأخذ باجتهادات الأئمة، أما نحن فنأخذ باجتهادات الأئمة جميعاً؛ لأن الطالب للعلم لا سبيل له إلى طلب العلم إلا من طريقين: إما أن يأخذ عن إمام فقط من الأئمة الأربعة وأنا أختصر كلاماً، وأقطع مراحل لا بد من شرحها؛ لأن طلاب العلم اليوم لا يستطيعون أن يأخذوا حتى ولا من إمام واحد، إنما بالوسائط، لكن أقول: طالب العلم اليوم لا سبيل له إلى تحصيل العلم إلا من طريقين: إما أن يأخذ عن إمام واحد، والطريق الثاني: أن يأخذ عن كل الأئمة، فالطريق الأول هو طريقة المذهبيين طريقة المقلدين الجامدين، الذين أولاً: لا يلتفتون أبداً إلى ما قال الله، وإلى ما قال رسول الله.

وثانياً: لا يلتفتون إلى الأخذ من الأئمة الآخرين، والذين لا ينتمي إلى مذهبهم في طلبه للعلم.

إذاً: طريق طلب العلم إما بتقليد مذهب معين، وإما باتباع الأئمة دون تعصبٍ لواحد منهم على الآخرين، فما هي طريقة القوم -اليوم- الذين يتهموننا بأننا لا نأخذ باجتهادات الأئمة؟ وما هي طريقتنا؟ إذا علمتم أن طريقتنا هي الأخذ عن كل إمام، وليس فقط الأئمة الأربعة، فإن الله عز وجل قد تفضل على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأئمة من أمثال الأئمة الأربعة بالعشرات، بل بالمئات، بل بالألوف المؤلفة، فالذين يأخذون بطريقة اتباع الكتاب والسنة، فهم الذين يأخذون باجتهادات الأئمة، أما الذين يقلدون مذهباً معيناً، فهؤلاء لا يستفيدون من الأئمة الآخرين، ولا يأخذون باجتهاداتهم، إذاً: فقد ظهر أن -كما قلت لكم آنفاً: غيري جنى وأنا المعذب فيكم غيري الذي لا يأخذ باجتهادات الأئمة وليس أنا، فأنا آخذ باجتهادات الأئمة كلهم، دون تفريق بين واحد والآخر منهم.

ثم لابد هنا إلى التنبيه بأن هذه الطريقة التي نسلكها نحن لعدم التعصب لإمام على إمام، هي الطريقة التي خطها ونهجها نفس الأئمة الأربعة وغيرهم للمسلمين؛ لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكتاب والسنة، ألا نقلد شخصاً معيناً؛ لأن الشخص المعين معرض للخطأ والصواب، ونحن حين نقول: خطأ، لا نعني الغمز، ولا اللمز، ولا الطعن، كما يتهمنا أولئك الناس، وإنما نعني: أنه -أي: المجتهد من هؤلاء المجتهدين- إما أن يؤجر أجرين، وإما أن يؤجر أجراً واحداً، فإذا أُجر أجراً واحداً فذلك يساوي عندنا (أخطأ) ، وأخطأ يساوي عندنا أجر أجراً واحداً، فالناس من جملة ما اضطربت فيه مفاهيمهم، وخرجوا عن الفهم الصحيح للكتاب والسنة: أن المسلم إذا قال في حق رجل عالم أخطأ، اعتبر هذا طعناً في الذي قيل فيه: إنه أخطأ، وهذا جهل، لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي بكر في قضية: أخطأت.

فهل طعن الرسول في صاحبه في الغار؟ حاشا! بل لقد قال في بعض أصحابه حينما أفتى فتوى فأخطأ فيها: كذب فلان، وكذب في اللغة العربية التي نكاد أن ننساها معناها: أخطأ، فنحن إذا قلنا اليوم: كذب فلان.

يا لطيف! -ولا نقولها؛ لأن القوم لا يفقهون لغتهم- ولكن لا يسعنا أن نقول إلا: أخطأ، وأخطأ يساوي أجر أجراً واحداً.

الخلاصة -والبحث في هذا طويل-: نحن نحترم الأئمة كلهم، ونأخذ باجتهاداتهم، وليس باجتهاد واحد منهم، وعلى العكس من ذلك؛ كل متمذهب إذا قال: نحن نحترم الأئمة ونعظمهم! فهو منافق، يقول ما لا يعتقد، في كتب المذهب الحنفي -بصورة خاصة- يقول ابن عابدين: إذا سُئلنا عن مذهبنا قلنا: مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، وإذا سُئلنا عن مذهب غيرنا قلنا: خطأ كله.

أي: أنا حنفي ومذهبي كله صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غير أبي حنيفة، مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم؛ كل هؤلاء مذهبهم خطأ يحتمل الصواب، هذا قولهم مسطور مطبوع، أما نحن إذا قلنا: فلان أخطأ في هذه المسألة، ونعني: أجر أجراً واحداً، يا غيرة الله! أما المطبوعة بالكتب (كل المذاهب خطأ إلا مذهبنا) فهذا لا بأس، وهذه عقيدة يجب أن يعتقدوها.

خلاصة القول: فرمتني بدائها وانسلت نحن نتبع الأئمة، وليس المقلدون هم الذين يتبعونهم، واحترامهم للأئمة إن أرادوا أن يكونوا صادقين؛ فعليهم أن يثبتوا لنا في ماذا اتبع الحنفي الشافعية، في أي مسألة؟ وفي أي مسألة اتبع الإمام مالكاً؟ وفي أي مسألة اتبع الإمام أحمد؟ حتى نعتقد أنهم يحترمون الأئمة، أما أن يظل يعيش أحدهم لا يحيد قيد شعرة عن مذهبه، ولا يعترف قيد شعرة بالمذاهب الأخرى، ويعتقد في نفسه أنه على صواب، فهو حين يقول: إنه يحترم الأئمة، يحتاج إلى ما يدعمه ويصدقه، أما نحن فواقعنا يشهد أننا نحترم الأئمة كلهم.

أنا -مثلاً- رجل حنفي، وفي بلادي لا يعرف إلا المذهب الحنفي، والإسلام هناك كله مذهب حنفي، وربنا عز وجل تفضل علينا وألهم أبانا فهاجر بنا؛ لنتعلم اللغة العربية ونتعلم الإسلام من مصدريه الصافيين: الكتاب والسنة، فقد عرفنا الأئمة، وعرفنا فضلهم، وعرفنا علمهم إلخ، فأنا حنفي، وتعلمت في الفقه الحنفي أنه يكره رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وقيل: إنه حرام، وقيل: إن الصلاة باطلة إذا رفعت يديك عند الركوع والرفع منه، وهذا مسجل في كتب وهي مطبوعة، فلما تبينت لي السنة في رفع اليدين، فوجدت الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام مالك أيضاً يقولون بأنها سنة أخذت بها، وكذلك كل مسألة يتبين أنها الحق أخذناها، إما من الجمهور، كـ مالك، والشافعي، وأحمد، أو تارة عن الشافعي دون مالك، وتارة عن مالك دون الشافعي، وتارة عن أحمد دون هذا وهذا، فهذا هو احترامنا للأئمة، لكن هم تارة بقصد سيء، وتارة بسوء فهم -وقد يكون القصد حسناً- يتوهمون أننا إذا قلنا: إن القول بأن رفع اليدين في الصلاة مكروه خطأ، فإننا نطعن في الإمام أبي حنيفة.

فنقول لهم: إذاً أنتم ماذا تقولون؟ أنتم تقولون: مذهبنا كله صواب يحتمل الخطأ، إذاً طعنتم في الأئمة كلهم، في أقوالهم كلها، هكذا يجمعون بين متناقضات في أذهانهم، نسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياهم لاحترام الأئمة واتباعهم حسب منهجهم هم، لا حسب منهج المقلدين تقليداً أعمى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015