إذن هذه الآيات كلها تدور على أن العبد يصدر إما عن وحيٍ وإما عن هوى، (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فإذا لم يتبع العبد الوحي فما ثم إلا الهوى، أهل البدع برغم ذكائهم وبرغم جدهم وعبادتهم ضلوا؛ لأنهم خالفوا أهل الحق في منهج التلقي وفي طريقة الاستدلال؛ هذا هو سبب ضلالهم، منهج التلقي كما في الآيات التي تلوناها: الوحي، فلا تصدر إلا عن وحي، عن قرآنٍ وسنة، هذا أعذر لك حتى لو زلت بك القدم وضاق عقلك عن فهم الآية عذرت، قلت يا ربِّ! اجتهدت في طلب الحق من هذه الآية فلم أصب، هذا بخلاف الذي يعبد على غير وحيٍ.
ولذلك العلماء قالوا بالنسبة للقانون الوضعي الذي تسير عليه الدولة الآن في المحاكم، وفي الجنايات، وفي العقوبات، وفي القصاص، كل القوانين التي في المحاكم الآن ضلال مبين، وهي على خلاف الشرع، ما بقي لنا من ديننا في المحاكم إلا قانون الأحوال الشخصية وقد بدلوه أو بدلوا أكثره، ففيما يتعلق بالمرأة يريدون الإجهاز على البقية الباقية من القانون، الذي هو في الأساس منتقى من مذهب أبي حنيفة، وحتى لو كان ما في هذا القانون قولاً مرجوحاً في مذهب أبي حنيفة فهو خيرٌ من القانون الفرنسي، ومع ذلك فهم يزحفون على البقية الباقية من قانون الأحوال الشخصية.
فلو جاء رجلٌ فقضى بالقانون الوضعي في قضية ما، فأصاب حكم الله فهو مأزورٌ غير مأجور، ولو حكم بشرع الله وأخطأ فهو مأجورٌ غير مأزور، فما الفرق؟ الفرق أن هذا الرجل الأول اعتمد في الأصل على غير ما أنزل الله، أصاب الحق أو لم يصب لا قيمة لذلك، إنما من لطف الله بنا أن الرجل إذا أفرغ وسعه في طلب الحق واعتمد على الأدلة الشرعية وأخطأ فإنه يصيب أجراً واحداً كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) أي: أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق، والأول له أجر الاجتهاد فقط، إذاً برغم أنه أخطأ إلا أنه يؤجر أجراً واحداً، أما الأول فبالرغم من أنه أصاب حكم الله عز وجل، لكنه مأزور؛ بسبب أنه لم يعتمد على الوحي قرآناً وسنة، وهذا هو الأصل؛ لأن الحكم ليس له إلا وجهان فقط: إما وحيٌ وإما هوى.