روى البخاري أيضاً في كتاب المغازي، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أن أبا رافع كان يقع في النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب به، ويشبب بنساء المسلمين، ومعنى يشبب: أي يصف العورات ويتغزل فيهن، فانتدب له النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك مع نفرٍ من أصحابه.
وفي بعض طرق الحديث خارج البخاري قال: فشيعهم إلى بقيع الغرقد، وقال: اللهم انصرهم، وكان أبو رافع أكبر تاجر في الحجاز كلها، وكان عنده جماعة يسمرون معه، ففقدوا حماراً لهم، فقام العبيد يبحثون عن الحمار، قال: عبد الله بن عتيك: فتقنعتُ بردائي كأني أريق الماء، فرآه البواب، فقال: أيها الرجل إن كنت تريد أن تدخل فادخل الآن وإلا أغلقنا الباب -وكان يظن أنه من الحاشية الذين ذهبوا يبحثون عن الحمار- قال: فدخلت واختبأت، حتى إذا وضعوا المغاليق على وتد وانصرفوا أخذت المغاليق وصعدت، فإذا أبو رافع يسمر وعنده جماعة من التجار، حتى إذا خرجوا أغلقت عليه الباب -حتى إذا استغاث أبو رافع لا يغاث- قال: فدخلت فإذا البيت مُظلم، ولا أدري أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع! قال: من، فاتجهت إلى الصوت فعاجلته بضربة لكنها لم تقض عليه، ثم أظهرت كأنني أغيثه، فقلت: مالك يا أبا رافع؟ قال: ويلٌ لأمك، ضربني رجل بالسيف، فجعلت السيف في بطنه ولم أتركه حتى سمعت صوت عظم الظهر، قال: فعلمت أنني قتلته، قال: وجعلت أخرج حتى وصلت إلى درج فنزلت على ساقي فكسرت فعصبتها بعمامة، وقفزت من على السور، وقلت لأصحابي: النجاة النجاة، ثم قلت: والله لا أمضي حتى أسمع الناعي، فلما صاح الديك قام الناعي، وقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ساقي فكأنني ما اشتكيتها قط.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح لهم أن يستخدموا الحيلة في القتال والحرب، والكذب في الحرب واجب، وهو نوع من الحيلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من الكذب لا نعدهن كذباً: كذب الرجل على امرأته، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل في الحرب).
فإن قال قائل: من أين لك أن الكذب في الحرب واجب ولفظ الحديث بمفرده لا يدل على الوجوب؟ مع إن غاية ما في الحديث أنه ليس بكذب فقط؟ فيقال: يستدل على الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، فلو أسر رجلٌ في بلاد الحرب وكان عنده معلومات لو علمها العدو من شأنه أن يجهد المسلمين ويهلكهم لحرم عليه ذلك، فإذا حرم عليه ذلك وجب عليه الكتمان، ويستدل على صيغة الوجوب بثبوت الحرام في الجهة المقابلة، إذا علمنا أن هذا حرام يكون عكسه واجب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.