الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وبعد: أيها الأحبة: إن الملك لا يستقيم إلا بالعلم، فيعرف فضل الحاكم إذا قرب أهل العلم، إذا قضى عن وفق كلامهم وفتواهم ومشورتهم.
وتعرف خبثه وبعده عن الحق والعدل والخير؛ إذا أبعد أهل العلم عن مجلسه، لذلك كان جماعة الملوك قديماً كبني أمية وبني العباس كانوا يهذبون أولادهم عند العلماء تمهيداً لإقامة سياسة الملك، فكان أكبر العلماء هم الذين يؤدبون أولاد الخلفاء، حتى إذا تولى استقام له الأدب واستقامت له الحكمة؛ لذلك كانوا إذا وعظ الواحد منهم، وذكر بالله يذكر، فـ هارون الرشيد مثلاً لما طلب الإمام مالكاً ليقرأ عليه الموطأ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تكن أول من أذل العلم فيذهب الله ملكك، العلم لا يأتي ولكن يؤتى إليه.
فلا تكن أول من أهان العلماء، فحملهم على أن يحملوا علمهم ويذهبوا إلى بيوت الخلفاء؛ فيذهب الله ملكك! فلم يتكبر هارون الرشيد لأنه كان من خيار الخلفاء ومن أفاضلهم، وكان رجلاً عابداً، وكان محترماً للعلماء، وكان مجاهداً، ولكن نصارى الروم وأشباه الرجال عندنا ممن تأدبوا بأدب الغرب هم الذين شوهوا سيرة هؤلاء الخلفاء.
فلم يتكبر هارون الرشيد، ولم تأخذه العزة بالإثم، ولم يعاقب الإمام مالكاً، وإنما جاء إلى مالك فركن ظهره إلى الحائط، فلما ركن ظهره إلى الحائط أشار إليه مالك أن هذا ليس من أدب طالب العلم؛ فأنت الآن لست خليفة، أنت طالب علم، فإذا جئت مجلس العلم وقد استحضرت غناك أو جاهك؛ فلن تفلح أبداً، فإذا كنت ابن العمدة، أو ابن رئيس الديوان -أو أي شخص- ودخلت وأنت تعتقد أن كل الناس ينظرون إليك؛ فهذا من اغترار النفس ولن ينفعك العلم.
إن العلم لا ينال إلا ببذل النفس وبذل ماء الوجه، فإذا جاء إلى مجلس العلم وفي نفسه كل معاني الملك فلن يفلح أبداً.
فبمجرد أن يركن ظهره ينبهه الإمام مالك أن هذا ليس من أدب الطلب؛ فيعتدل مباشرة، ويطلب العلم ويشكر مالكاً؛ لذلك استقامت لهم الدنيا سنين عدداً.
فيعرف فضل الحاكم إذا قرب منه أهل العلم، وكان أول رجل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل فمن أين يأتيه العدل إذا كان جاهلاً؟ فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي على ما كان فيه من طغيان -قلامة ظفره أفضل بكثير ممن جاء بعده- فقد كان أحياناً يخضع للحق، فإذا ذكّره إنسان بالله يذكر.
فذات مرة طلب أن يُقبض على رجل، فلم يجدوا الرجل فقبضوا على أخيه، فقال المقبوض عليه: أنا مظلوم.
فقالوا: والله بحثنا عن أخيك فلم نجده، فأخذناك.
قال: حسناً دعوني أكلم الخليفة.
فقال: أصلح الله الخليفة، إن هؤلاء أرادوا أخي فلم يجدوه فأخذوني، وقبضوا على ابني، وهدموا داري، ومنعوا عطائي.
فقال له الحجاج: هيهات! ألم تسمع قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وربما تعدي الصحاح مبارك الجرب ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب الأول هو الجمل السليم عندما يقعد في مبرك أجرب فيأخذ الجرب معه، فأيضاً أنت من أجل أنه أخوك ذق، واليوم كثير من الناس يعادون الملتزمين لماذا؟ يقول له: أنت بسببك كنت سأتوظف ومنعوني، قالوا: أليس من أقاربك فلان؟ نعم، قريب فلان؛ إذاً: ليس لك عندنا وظيفة، ولا كيل لكم عندي ولا تقربون، وستظل مشرداً في الأرض، من أجل أنك قريب فلان.
حسناً لماذا تعاقبونني بفلان؟ فهذا يقول له: ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ونجا المقارف صاحب الذنب فقال الرجل -وكان ذكياً-: أصلح الله الخليفة، فإني سمعت الله يقول غير ذلك.
قال: وماذا يقول الله عز وجل؟ قال: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:78 - 79].
فحينئذٍ أطرق الحجاج ساعة، وقال: علي بفلان -صاحب الشرطة- فقال له: فك لهذا ابنه، وابنِ له داره، ومر له بعطاء، ومر منادياً ينادي: أن صدق الله وكذب الشاعر.
فهذا عنده شيء من الدين، وإن كان ظالماً وسفاكاً للدماء، ولكنه كان إذا ذكر بالله ذكر، ولا يستقيم الملك إلا لعالم أو لرجلٍ قرب أهل العلم.