يؤخذ من هذا الحديث ما بوب به الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه على هذا الحديث في موضع من المواضع؛ لأن الإمام البخاري روى هذا الحديث في أكثر من موضع من الصحيح، فرواه في كتاب (الكفالة)، وهل يجوز أن يكفل فلان فلاناً؟ وهو المعروف بالكفيل.
صلى الله عليه وسلم واضح طبعاً من سياق الحديث أنه يجوز.
ووضعه في كتاب (اللقطة) في صحيحه، وهذه هي الفائدة التي نذكرها الآن.
كتاب (اللقطة): أي ما يلتقط من على الأرض، ما تجده على الأرض، سواء وجدت مالاً، أو وجدت غنمةً، أو وجدت أي شيء، فهل يجوز لك أن تأخذ هذا الشيء، فإن فعلت فما حكمه؟ وهل يجوز لك أن تتصرف فيه، أم لا بد أن تعرفه؟ وأحكام كثيرة في اللقطة ليست من موضوعنا هذا، ولكن نأخذ ما يتعلق بالحديث الآن.
هذا الحديث في كتاب (اللقطة) بوب عليه الإمام البخاري بقوله: (باب لقطة البحر).
أين موضع الشاهد؟ أن الرجل مد يده وأخذ الخشبة، أي: وجدها في البحر، فلو وجدت أنت لقطة في البحر هل يجوز أن تأخذها؟ هذا هو الشاهد.
الجواب: نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق هذه الحكاية مساق المدح، وهو صحيح أنه حصل في شرع مَن قبلنا في بني إسرائيل؛ لكن أي حكاية وأي خبر عن بني إسرائيل يسوقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح أو القصة بغير أن يعقب يكون شرعاً لنا، فما الدليل على أنه شرع لنا؟ الدليل: هذا الحديث؛ لأن القاعدة عند علماء أصول الفقه تقول: (شرع مَن قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يعارضه).
فمثلاً: بناء المساجد على القبور كان في شرع من قبلنا؛ لأنه واضح من سورة الكهف في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] فلا يقولن قائل: إن الله تبارك وتعالى ساق قول هؤلاء ولم يعقب عليه تعقيباً يدل على منع بناء المساجد على القبور، فيقال: إن الله تبارك وتعالى ساق بعض أقوال الكافرين ولم يعقب عليها، لماذا؟ لأن بطلانها ظاهر جداً، صحيحٌ أنه يرد كثيراً لكن لا يرد أحياناً، ولو سلمنا جدلاً أن الآيات التي وردت في القرآن الكريم بعد مقالات الكفار والملحدين رُدَّ عليها، فإننا نلتمس الرد إما من الكتاب أو السنة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة وهي كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الذين يتخذون المساجد على القبور)، وكان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك! ألا إني أنهاكم عن ذلك).
فماذا فعلت الأمة؟ فعلت ما نهيت عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يؤكد الشيء يكرره ثلاث مرات، وكان إذا أراد أن يُفْهِمَه كرره ثلاث مرات، ومع ذلك تجد ألوف الجنيهات تُنفق على تشييد المقابر.
في كفر الشيخ مسجد يزعمون أن فيه رجلاً صالحاً، ثم قاموا بعد فترة يبحثون عن هذا الرجل الصالح، فلم يجدوا له عظْماً ولا جمجمة ولا أي شيء، فما زالوا يحفرون طمعاً أن يجدوا شيئاً، ولكنهم لم يجدوا شيئاً، ومع ذلك تجدهم يشيدون الضريح! وألوف على مآذن لا تُستخدم الآن، وفي السُّنَّة أن يصعد المؤذن على المئذنة، وهذا شيء أردت أن أنبه عليه في هذا المسجد: السنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، السنة أن يؤذن على سطح المسجد، فرُب قائل يقول: وما الحكمة طالما أنه يوجد مكبرات صوت؟ فيقال: كثير من الأحكام الشرعية غير معللة، بمعنى أنك قد لا تستطيع أن تعرف الحكمة منها، وإنما تنفذها كما جاءت في السنة؛ كتقبيل الحجر الأسود مثلاً، فلماذا نقبل الحجر الأسود؟ لا توجد علة، ولا نعرف حتى الآن لماذا نقبِّل الحجر الأسود، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساءل هذا السؤال وأجاب، فقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) إذاً: لماذا تقبِّله يا عمر؟ - لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك.
إذاً: هي مسألة اتباع محض، حتى وإن لم تفهم شيئاً من الحكمة، هذا هو الشيء الأول.
أما الشيء الثاني: ربما كان هناك رجلٌ أصيب بصمم لا يسمع، فيرى المؤذن وهو يلتفت يمنةً ويسرةً، فيعلم أن الأذان قد حان.
ولو فتشنا لوجدنا دلائل أخرى.
فالسنة أن لا يؤذَّن بين يدي الإمام، إلا أن يؤذن على باب المسجد على صخرة تكون هناك، وإما أن يصعد فوق المسجد يؤذن، وإذا كان من الصعب الوصول إلى أعلى المسجد، وكان هناك صخرة أو شيء عالٍ أمام المسجد فإنه يؤذَّن عليه.
المهم: ما لا يوجد في الكتاب يُلتمس في السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن البناية التي توضع على القبور، والمدهش أنك ترى أعظم المساجد بناءً وزخرفةً هي التي فيها قبور، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فلا يقال: يستشهد بآية الكهف على جواز بناء المساجد على القبور؛ لأن شرع من قبلنا شرعٌ لنا بشرط أن لا يوجد في شرعنا ما يخالفه، فإن وُجِد في شرعنا ما يخالفه فالعبرة بشرعنا لا بشرع غيرنا.
كذلك أجمع العلماء جميعاً أن التماثيل حرام، مثل تمثال رمسيس، ومنقرع، وخوفو، والسنة أن تنسف وأن تزال، وأن كل المتاحف الموجودة وثنية، لا يجوز لمسلم أن يذهب إلى متحف من المتاحف لكي يتفرج على الأحجار التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكسرها، كما في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مُشْرِفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته).
لكن في سورة سبأ أخبر الله تبارك وتعالى عن سليمان عليه السلام مع الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13]، فهناك من يقول: هذا سليمان وهو نبي، ومع ذلك كان يصنع التماثيل، فنحن أولى أن نصنع التماثيل.
لا يُحتج بفعل سليمان عليه السلام؛ لأنه ورد في شرعنا ما يردُّه، والعبرة بشرعنا لا بشرع مَن قبلَنا.
كذلك لو أن سفينةً تمخُر عُباب البحر، وكان يركبها مائة رجل، وكادت السفينة أن تغرق، فقالوا: يا جماعة! إنكم لن تَنْجُوا إلا إذا رمينا -مثلاً- عشرة في البحر، حتى نخفف حمل السفينة، ولا شك أننا لو رمينا عشرة سنحفظ أرواح تسعين؛ لأن هذا أولى؛ لأن الشريعة جاءت بدفع أكبر الضررين، أعني أن الشريعة تقول: إذا كان هناك أمران وكلاهما ضار، ولا بد لك أن تأخذ أحدهما اختر أخفهما ضرراً؛ لأن الشريعة جاءت بدفع المضرة عن المسلم.
فلا شك أننا عندما نرمي عشرة في البحر لنحافظ على حياة تسعين أن هذا من ضمن بحث الشريعة.
ويحتجون بقصة يونس عليه السلام ذي النون عندما ركب السفينة، وحصل أن ربان السفينة قال: إن فيكم عبداً عاصياً فليخرج، فما خرج أحد، فعملوا قرعةً: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] (ساهم) أي: اقترع، ومنه ما تعلمون من الخطأ الشائع حيث يقال: فلان ساهم في بناء المسجد، وهذا خطأ، والصواب أن تقول: فلان أسهم، أي: شارك؛ {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: كلما اقترعوا وقعت عليه القرعة، فقالوا: نرمي نبياً في الماء؟! فأعادوا القرعة مرة أخرى، فتأتي عليه القرعة، فقذفوا به في الماء.
فقالوا: هذا نبي وقذفوا به في الماء، فهذا حجتنا، وشرعُ مَن قبلَنا.
فيقال: لا.
لأن شريعتنا أتت بقول القائل: إن دم المسلم الأصل فيه العصمة؛ لأن دم الذي ستحفظه ليس أولى من دم الذي ستلقيه في الماء، لماذا ألقيت هذا لتحفظ دم ذاك، أدَمُ هذا أغلى من دَمِ ذاك؟ لا.
كل الدماء معصومة، إما أن يغرقوا جميعاً وإما أن ينجوا جميعاً، لا تفاضل في الدماء، لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم، فليس هناك فرق بين أمير ولا مأمور، ولا غني ولا فقير، ولا أي شيء من هذا، دمك مثل دمه تماماً، معصوم بالنص، لا يهدر لمجرد ترجيح من عندك، فهل أنت مستيقن (100 %) أنك لو رميت العشرة ستنجو السفينة؟ إذاً: هذا ظن، ودم المسلم معصوم بيقين، فلا يُهْدَر هذا اليقين لأجل ظن رَجَح عندك، فلا يُعمل بشرع مَن قبلَنا هنا.
لماذا؟ لأن شرعنا ورد فيه ما يرده، إنما يُعمل بشرع ما قبلنا إذا كان شرعُنا يؤيده، كمثل القصة التي سقناها الآن، وكمثل القرعة التي دل عليها حديث عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه)، يعمل قرعة، فمن خرج سهمها خرجت معه.
وكذلك كما قال أبو عبيد رحمه الله -أحد أئمة الحديث واللغة- يقول: اقترع ثلاثة من الأنبياء: اقترع زكريا عليه السلام لما اختلف في كفالة مريم مع بني إسرائيل: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، قال علماء التفسير: كانوا يأتون بالأقلام التي يكتبون بها التوراة، وجاءوا في ماء جارٍ وقالوا: نلقي أقلامنا، فمن وقف قلمه فهو الذي يكفل مريم -وهذا شبيه بالقرعة-: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:44] أي: في الماء، {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44] أي: أيُّهم الذي يكفل مريم، فوقف قلم زكريا عليه السلام.
ويونس في قصة السفينة، ونبينا صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وغيره.
إذاً: شرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا، بشرط أن لا يَرِد في شرعنا ما يردُّه.
فلم ينكر أن الرجل أخذ الخشبة من البحر، لذلك يجوز لك أن تأخذ لقطة البحر؛ لكن هناك سؤال آخر دقيق وهو: أن الإمام البخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث: (باب لقطة البحر)، فلو وجدت خشبةً بها ألف دينار، هل تأخذ الألف دينار؟ الجواب: لا بد أن تعرِّف ذلك؛ وإذا كان مبلغاً بسيطاً أو شيئاً يتسارع إليه الفساد، لا جناح عليك إن لم تعرِّفه، يعني مثلاً: إذا وجدتَ برتقالة وأنت تمشي، فأنت إذا أردت أن تعرِّف البرتقالة فإنها ستفسر فيجوز لك