انظر مثلاً في قصة إسلام أبي ذر وهي في الصحيح، لما أرسل أخاه إلى مكة يتلمس الأخبار عن هذا الذي يزعم أنه نبي، ويأتي بمقاله، فذهب أخوه ثم رجع إليه يقول: (يدعو إلى مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، فقال: لم تكفني)، فجهز زاداً وانطلق إلى المسجد الحرام، وظل ثلاثة أيام؛ لأنه لا يستطيع أن يقول: دلوني على الذي يزعم أنه نبي، وإلا فتكوا به، فظل ثلاثة أيام يمر عليه علي بن أبي طالب ينظر إليه، وينظر إليه أبو ذر، فيقول: أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله، فقال أبو ذر: (فاستضعفت رجلاً منهم -نظر في الكفرة، فرأى رجلاً نحيلاً ضعيفاً هزيلاً- فقلت: أسألك -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً أو دائماً، فقال له: أين هذا الذي يزعمون أنه صابئ؟ فأشار هذا الضعيف إلى الجلوس، وقال لهم: الصابئ الصابئ)، وهذه كالشفرة معناها: اقبضوا عليه؛ لأنه يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال أبو ذر: (فاستداروا عليّ بكل مدرة وعظم حتى كأنني نصب أحمر) من كثرة الدماء التي سالت عليه، فهرب منهم، وما أنقذه إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: (ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم يمر على غفار؟ فتركوه، خوفاً من غفار أن تنتقم وتأخذ التجارة منهم، وهربوا، فلقيه علي بن أبي طالب قال: (أمَا آن للغريب أن يعرف سبيله؟ قال: إن كتمتني قلت لك، قال: وما ذاك؟ قال: أين هذا الذي يذكرون أنه صابئ، قال: اتبعني، فإذا خفت عليك -لأن هناك جماعة يرقبونه- سأعمل كأني أريق الماء -أي: يتبول- وما زال وراءه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما أن رأيته حتى علمت أن هذا ليس بوجه كذاب، فسمع منه وآمن، فقال له: (لا تجهر بها حتى نظهر) -أ: ي حتى نهاجر إلى المدينة- فقال له: والذي بعثك بالحق لأقذفن بها بين أظهرهم، وذهب إلى المسجد وصاح بالشهادة، قال: فانهالوا عليه بكل مدرةٍ وعظم، فما أنقذه إلا العباس، ويلكم! أمَا تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم يمر على غفار، فهرب منهم ثلاثين يوماً، ما له طعامٌ ولا شرابٌ إلا ماء زمزم، قال: حتى تكسرت عُكن بطني ولم أشعر في كبدي بجوع)، تكسرت عكن بطني، يعني: حتى أصبح لحم بطنه طبقات، لا يأكل ولا يشرب إلا ماء زمزم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنها طعام طعم، وشفاء سقم).
تصور رجلٌ مثل أبي ذر يعلم العواقب الوخيمة التي ستنهال عليه من جراء الصدع بالشهادة، فمبجرد أن سأل: أين الصابئ؟ حولوه كتلة دم، فكيف لو ذهب وجهر بالدعوة ماذا سيفعلون به؟ ومع ذلك استعذب أن يصدع بها وهو يعلم العواقب، فهل رجلٌ مثل أبي ذر إذا تلا آيةً من كتاب الله أو سمع حديثاً من النبي عليه الصلاة والسلام يمكن أن يخالفه؟