لا بأس إن كان هناك حديثان ظاهرهما التعارض أن نوفق بين الحديثين بنوعٍ من أنواع التأويل المقبول، فمثلاً: حديث أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) قالت: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، غفر الله لـ أبي عبد الرحمن، إنما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في يهودية ماتت فقال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) بيني وبينكم كتاب الله، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فهذا الحديث كأنه يعارض الآية، وقد ذكر علماء الأصول أنه يستحيل أن يكون هناك تعارض بين آيةٍ من كتاب الله تبارك وتعالى، وبين حديثٍ صحيح للنبي عليه الصلاة والسلام، إنما يكون التعارض في ذهن المجتهد، وليس في حقيقة اللفظ، فنحن إذا نظرنا رأينا أنه لا تعارض، وأن عمر وابنه لم يخطئا في الرواية، فقد روى هذا الحديث ستة أو سبعة من الصحابة، وإن جاز أن يهم ابن عمر فلا يمكن أن يهم هؤلاء الذين رووا هذا الحديث، إنما عائشة رضي الله عنها التجأت إلى ظاهر الآية، وإلى هذه الرواية التي روتها: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) أي: أن المسألة منفصلة، هم يبكون وهي تعذب، ليس بسبب البكاء، وبكاؤهم لا يخفف عنها، أو وهم لا يشعرون بها أو نحو ذلك.
جمع العلماء بين الآية وبين الحديث، كالإمام البخاري مثلاً في الصحيح قال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا كان ذلك من سنته).
أي: أنه إذا أوصى أن ابكوا عليَّ، وانصبوا الأعلام وشقوا الجيوب وادعوا بدعوى الجاهلية، إن أوصى بهذا يُعذب، فحمل الحديث على إذا كان ذلك من سنته، أي: من سنة الذي مات، أنه أوصى بذلك، ولا شك أنه لا يجوز لأحدٍ أن يوصي بما لا يرضى الله تبارك وتعالى عنه.
ومثل هذا باب واسع جداً عند أهل العلم، صنفوا فيه كتباً، ولا يستطيع أن يخوض فيه إلا الجهبذ الذي قلمت أظفاره بالعلم، فالرجل الذي لم يقرأ في الأصول قراءةً جيدة لا يستطيع أن يخوض في باب التعارض والترجيح؛ لأنه باب تزل فيه أقدام الفحول، وعندما ترى العلماء المتقدمين الذين ينظرون في الأحاديث وفي تأويلها تستشعر أن هؤلاء على علم، بخلاف كثير من المتأخرين، الذين وإن درسوا الأصول لكن عندهم شقاشق وكلامٌ كثير يحتاج إلى نظر، حتى أن بعضهم حرر بعض الأصول تحريراً فيه نظر، لا يعرف إلا عن بعض المتأخرين ولم تكن أحد من المتقدمين يقوله، فالحاصل أن التأويل كما يقول بعض العلماء عدو الأديان، وما زل من زل إلا بسبب التأويل والتوسع في التأويل، وبدعوى أن هذا تأويل حرفوا كلام الله تبارك وتعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً ليوم القدوم عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.