أضرب لذلك مثلاً: قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، ففي الصحيح في قصة إسلامه وقبل أن يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ودخلت المسجد الحرام، فتضعفت رجلاً منهم) أي: نظر إلى رجل نحيف، وكانت قريش آنذاك تؤذي أي شخص يسأل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الإيذاء، سواء كان على دينه، أو ينوي الدخول فيه، فهو نظر إلى شخص نحيف ضعيف -لأن الضعيف مأمون الغائلة غالباً- فقال له: (أين ذلك الذي يقولون: إنه صابئ)، فصاح ذلك الضعيف بين الناس، قائلاً: عليكم بهذا فإنه صابئ، قال: فانقلبوا عليَّ بكل مدرة وعظم، فما زالوا يضربونني حتى كأني نُصُبٌ أحمر، من كثرة الدماء التي سالت عليه، فاحتبس ثلاثة أيام في زمزم حتى وفق للقاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخذه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأسلم.
ورغم هذا الضرب الشديد الذي لقيه أبو ذر من هؤلاء المشركين، إلا أنه لما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثك بالحق لألقين بها بين أكتافهم) وذهب إلى المسجد الحرام مرة أخرى، وقال على الملأ: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: (فمازالوا يضربونني حتى كأني نصبٌ أحمر، فما خلصني منهم إلا العباس، قال: ويلكم! ألا تعلمون أنه من غفار، وأن تجارتكم تمر بها)، فتركوه لهذا، فانظر هل مثل أبي ذر الذي جهر بهذه الكلمة -وهو يعلم مسبقاً العناء والبلاء الذي سيقع عليه- يمكن أن يحرف في آيات الكتاب، أو يمكن أن يهون عليه أن يرى رجلاً يحرف في آيات الكتاب، ثم يسكت عنه؟ الجواب لا، هؤلاء قاتلوا على هذا الكتاب، لذلك فما كانوا ليتنازلوا عنه أو يرضوا بتحريفه، وعندما تنظر إلى الأجيال التي جاءت بعد ذلك، وإلى المارقين الذين تناولوا القرآن الكريم بالتحريف، كأمثال محيي الدين بن عربي فإن له تحريفات -بدعوى تفسير القرآن- يشيب لها الولدان.
فمثلاً قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] المعقول من أي إنسان عربي يسمع هذا الكلام، يعرف أن معنى هذه الآية: من الذي يمكن أن يشفع عند الله إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، أما ابن عربي فقال: هو الفهم السطحي والتوقف على ظاهر النص، لكن لابد أن تغوص في المعنى!!.
ثم يقول: الآية معناها: من ذلَّ ذي يَشْفَ عِ، فعجن الكلام وأتى بكلام جديد، (من ذلَّ): من الذل، (ذي) اسم إشارة بمعنى النفس، أي: من ذل نفسه وهضم الكبرياء والأنفة والشموخ، (يشف) أي: يشفى من الأمراض والكبر والبطر وهذه الأشياء، (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام.
فهل في الآية ما يشير من قريب أو بعيد إلى مثل هذا.
كان أبو بكر رضي الله عنه مرة يخطب في أصحابه، فقرأ قوله تبارك وتعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]، فقال: الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم سكت، ثم قال: إن هذا لهو التكلف يا أبا بكر، فهل مثل أبي بكر لم يكن يعرف معنى كلمة أَب في اللغة، والقرآن نزل بلغتهم، وليس فيه حرف واحد إلا وهم يعرفون معناه، ثم هم يعرفون معنى كلمة الأب الذي هو العشب؟! لكن كأن مقصود أبي بكر رضي الله عنه حقيقة الأب وما وراء معنى اللفظ، فيقول: إن هذا لهو التكلف؛ لأننا ما أُمرنا بذلك، والقرآن ما أنزل كتاب علوم أو جغرافيا، إنما أنزل كتاب هداية، فالذي ينظر في القرآن على أنه كتاب علوم أو جغرافيا، لا يصل إلى حقيقة الهداية التي نالها الصحابة من هذا الكتاب العظيم.