الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
سابعاً: إن شهود أسماء الله عز وجل وصفاته في الكون من أعظم البواعث على تقوية باعث الدين، وعلمك أن الله عز وجل لا يسوي بين الطائع والعاصي، وأن الله تبارك وتعالى منتقم وشكور، ولا يظلم مثقال ذرة، لما تجمع هؤلاء الثلاثة؛ هذا يكون حافزاً لك على الإحسان، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هكذا قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم، وقرأ بقية السبعة كـ نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء - (سواءٌ محياهم ومماتهم) وهناك فرق عظيم بين القراءتين: أما (سَوَاءً): فهي داخلة مسبوكة في معنى الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اجترحوا: يعني اكتسبوا، ومنها الجوارح، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ): فيقول: هم يتصورون ممات الكافرين كممات المؤمنين، وحياة الكافرين كحياة المؤمنين! إذاً المعنى جاء مسبوكاً في بقية الآية أولها، وآخرها (ساء ما يحكمون) طبعاً لا يمكن.
وعلى قراءة: (سواءٌ) بالرفع، تقرأ هكذا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] وتقف {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21] فـ (سواء) خبر مقدم، أي: أن حياة الكافرين ومماتهم واحد، هو ميت قبل أن يموت، هذا الجسم الذي تراه عبارة عن قبر متحرك لقلب ميت، {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:80 - 81] قرأ حمزة وغيره ((وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم)) إذاً هؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
فإذا كنت على معرفة جازمة أن الله عز وجل لا يسوي أبداً بين الطائع والعاصي، ثم كما هو تبارك وتعالى من لطفه أن نصب لك الأدلة ونصب لك الثواب والعقاب؛ حتى لا تقول: يا رب! أخذت على حين غرة.
قال تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] (أملي لهم): يمد لهم حبال الأماني، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] هذا استدراج، يزين له المعصية ويقيم الدلائل عليها، لو كان ربنا يكرهنا لحرمنا من الأولاد والمال، ولكنه أعطانا الأولاد حتى نتقوى، والأموال لنفعل ما لذ وطاب، إذاً أكيد هو يحبنا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] كلمة (يحسبون) أي: يقيمون الشبهة دليلاً ويتكئون عليها.
وكما قالت اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فرد الله سبحانه وتعالى عليهم الرد الدامغ الذي لا يخطئه أبداً ذو عقل: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] أي: أن الحبيب يتجاوز عن الذنب -هذا معنى الآية- فإن كنتم أبناء الله وأحباؤه فعلاً يعذبكم بذنوبكم؟ فالأصل أن يتجاوز، ولا يؤاخذ ولا يعاقب كما ذكر الله عن يوسف وإخوته: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:91 - 92] (الحبيب لا يرى ذنباً، والبغيض لا يرى حسناً).
وهذا ترجمة المثل العامي: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) الزلط -الحصى- الذي لا يُبلع -أصلاً- صديقك يبلعه؛ لأنه حبيب.
فالله تبارك وتعالى نصب الأدلة، وبين لك منذ البدء أنه بينك وبين هذا الشيطان عداوة قديمة، وأن الله تبارك وتعالى مكنك من الشيطان بكلمة واحدة فقط: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فأنت أقدر على شيطان الجن منك على شيطان الإنس، شيطان الجن بمجرد أن تستعيذ بالله منه يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو جلست وقرأت عليه القرآن كله؛ يقول لك: الآية هذه معناها كذا وهذه معناها كذا، والعلماء قالوا كذا، والعالم الفلاني قال كذا يشوش عليك، وإذا قلت له: أعوذ بالله من شرك؛ يقول لك: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وبرغم أن شيطان الجن أقوى، ولديه إمكانات وصلاحيات أن يصير كالجبل العظيم أو كالذر يجري في الدم! ومع ذلك أول ما تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يولي الأدبار، ويضعف كيده وبأسه.
إذاً: الله تبارك وتعالى مكنك منه، ثم أبان لك عداوته، والرسول عليه الصلاة والسلام ترجم هذه العداوة في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وينخسه الشيطان؛ لذلك يستهل صارخاً) يصرخ؛ لأن الشيطان ينخسه، وما زال أبيض الصفحة، لم يفعل شيئاً، كأن الشيطان بهذه النخسة يقول له: أنا إنما نصبت لك، ولن تفلت مني.
يذكره به، يقول له: هذه نخسة لكي أذكرك.
فما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً بسبب نخسة الشيطان، إلا مريم وابنها، واقرءوا إن شئتم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].
هذه العداوة بينها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن -على أنها عداوة ظاهرة- ولا تخفى أبداً إلا على أعمى القلب.
ثم يقول الله تبارك وتعالى بعد ما بين العداوة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50] بئس البدل: أنك تتولى الشيطان، ولا تتولى الله عز وجل.
إذاً: شهود انتقامه وشهود إنعامه، وأنه شكور، وأنك إذا فعلت الفعل اليسير أجزل لك المثوبة، وإذا فعلت الذنب العظيم كتبه ذنباً، وقد يمحوه، هذا كله مشجع وحافز لك لكي تحسن، إذا زلت بك القدم، فأنت عند رب محسن {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] لأنك تعلم أن ربنا سبحانه وتعالى قد يتجاوز لك، لكن لا تكن كالمرجئة، يفعل الشيء ثم يقول: إن الله غفور رحيم لا، اعمل صالحاً وحاول ألا تغلط، فإن أخطأت وزللت فتب إلى الله عز وجل، واعلم أن الصبر على أمره، والانتهاء عن نهيه عاقبته التمكين والعز، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4].