إذا لم تؤثر فيك محبته ولا إحسانه وإنعامه؛ استحضر مشهد غضبه وانتقامه، والله عز وجل إذا غضب على أحد لا يقوم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
واعتبر بحال الجبل الذي تجلى الله له، ما غضب عليه، وإنما تجلى فقط فجعله دكاً، فلا يقوم شيء لغضبه أبداً فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
واعلم أن العقوبة من جنس الفعل، فإذا علمت ذلك خفت من الله عز وجل، فإن قوماً لا يؤثر فيهم القرآن يؤثر فيهم السلطان؛ كما قال عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) مات أناس أصحاء أقوياء ما مرضوا قط، وصاروا تراباً وأكلتهم الأرض، وإذا شعرت بهذه القسوة فلابد أن تتدارك الخطر الداهم على هذا القلب، كيف لا تذهب إلى رجل وتقول له: قلبي قسا، ما علاجه؟ إن ميمون بن مهران -رحمه الله، وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه- قال لابنه عمرو: (يا بني! خذ بيدي -وكان قد كف بصره- واذهب بي إلى الحسن البصري.
قال: فانطلقت به أقوده، فاعترضنا جدول ماء - (جدول ماء) يعني: قناة ماء، والرجل لا يستطيع أن يمر- قال: ففرشت نفسي على القناة فعبر عليَّ الشيخ، وانطلقت أقوده حتى ذهبنا واستأذنا على الحسن، فخرجت جارية الحسن فقالت: من؟ فقال لها: عمرو بن ميمون.
قالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قال: نعم.
قالت: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟! فبكى عمرو وعلا نحيبه؛ فخرج الحسن على بكائه فاعتنقا، فقال عمرو: يا أبا سعيد! شعرت بغلظة في قلبي فجئتك، هل أصوم لها -يستشيره هذه الغلظة التي وجدتها في قلبي علاجها أن أصوم لها-؟ يا أبا سعيد، قل لي شيئاً، فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] فخر ميمون بن مهران مغشياً عليه، فجعل الحسن يفحص رجله كما تفحص رجل الشاة المذبوحة، وأفاق بعد مدة، فخرج ميمون مع ابنه عمرو، فقال ابنه له: يا أبتي! أهذا الحسن -يعني: هذا الرجل الضخم الذي أنت تصفه لي-؟ قال: نعم يا بني.
قال: ظننته أكبر من ذلك.
قال عمرو: فوكزني أبي في صدري، وقال: يا بني! لقد تلا آية لو تدبرتها لألفيت لها كلوماً في قلبك -لألفيت لها جراحاً في قلبك-).
وتأمل! ميمون الثقة الثبت، الإمام الكبير العلم، يذهب إلى الحسن يقول له: (آنست في قلبي غلظة)، قلبك لا يموت فجأة، فكيف قصرت في الدفاع عن هذا القلب الذي حياتك الأبدية متعلقة بسلامته من سهام الشيطان التي لا تكف عنك طرفة عين، تركته غرضاً للسهام ثم تبغي النجاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.