استنكر بعض الصحابة منهم صفوان بن عسال على الأعرابي الذي رفع صوته ونادى: يا محمد.
وقد ارتكب هذا الأعرابي خطأين: الخطأ الأول: أنه رفع صوته.
الخطأ الثاني: أن لم يتأدب في النداء قال: يا محمد! والله تبارك وتعالى أدب أقواماً فقال لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]؛ لأن الله تبارك وتعالى ما دعاه باسمه في حال المناداة أبداً، وإنما قال: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، وذكر جميع الأنبياء بأسمائهم، {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما ناداه ناداه بالرسالة والنبوة تشريفاً له، وما ذكره باسمه إلا بمعرض الذكر المجرد، كقوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كقوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، وهذا ليس فيه نداء، أعرابي أخطأ مرتين: مرة في رفع الصوت، والمرة الأخرى بأنه نادى النبي عليه الصلاة والسلام باسمه.
كان في عصر الصحابة رجل من المسلمين يكنى بأبي القاسم، فناداه أحدهم قال: (يا أبا القاسم! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا لبيك -انظر الأدب! - قال له: لم أعنك -أي: لم أقصدك- فقال عليه الصلاة والسلام -تعقيباً على هذا الموضع-: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) فمنعهم أن يكنوا بأبي القاسم تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بنحو صوته -أي: رفع صوته- وقال له: هاؤم.
-أي: أقبل، أو ماذا تريد؟ وفي الرواية الأخرى قال له: يا لبيك -قال صفوان: فقلت له: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن ذلك -أي: عن رفع الصوت-؟! فقال له: والله لا أغضض من صوتي).
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه الأعرابي لم يؤاخذه؛ لأنه أعرابي، وكان يتسامح معهم، وكانوا أحياناً يقومون بأشياء قد يكفر قائلها لولا أنه قد عذرهم، مثل الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وغيره بإسنادٍ قوي، عن قتيبة بن زيد الأنصاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فابتاع جملاً من أعرابي، -أي: اشترى- وكنا في سفر، فقال: نأخذ إذا رجعنا -أي: إلى المدينة- فجاء أقوام يشترون الجمل، وهم لا يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام اشتراه، فقال لهم الأعرابي: بكم؟ -لم يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، كان له أن يقول: لا، هذا الجمل بيع- فأعطوه أكثر من الثمن الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام قرضه، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: أولم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً؟ قال: كلا، بل بعتني الجمل.
فقال: كلا، ما بعتك شيئاً.
هذا تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي: هلم شهيداً -أي: ائتني بشهيد يشهد معك أنني بعتك الجمل، فأحجم الصحابة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يبدو من ظاهر الرواية أنه اشترى الجمل من الأعرابي دون أن يُشهد أحداً والصحابة لم يحضر أحد منهم البيعة، فلم يشهد أحد، لكن خزيمة بن ثابت الأنصاري انبرى، وقال: أنا أشهد أنك بعته -مع أنه لم يحضر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك.
فجعل شهادته بشهادة رجلين).
وفي الصحيح: (أن رجلاً من الأعراب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الرحمة مائة جزء، أنزل الله إلى الأرض جزءاً واحداً، تتراحم به الخلائق) من والإنس والجن، من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، حتى أن الدابة لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تدوسه.
أحياناً من كثرة الشفقة على إنسان يمكن قلبك أن ينفطر، فتكاد أن تموت من الرحمة على هذا الشخص، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، (لعلك باخع) أي: قاتل نفسك أسفاً عليهم أنهم لا يؤمنون.
فيأتي الأعرابي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت ما وسعه الله- فلم يلبث أن بال في المسجد، فهم الصحابة به أن يأذوه -فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه- لا تزعجوه، لا تفزعوه- إنما بعثتم ميسرين، ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) وإذا كانت المسألة لها حل فلماذا تشدد؟ فإذا ارتكب إنسان خطأً وهو جاهل به فارفق به، ولا تعامله كأنه معاند وتشدد عليه في الكلام.
عند الخرائطي في مكارم الأخلاق، وقد روى هذا الحديث، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على أن بلت في مسجدنا، أو لست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق! ما ظننته إلا كمثل هذه الصعدات) أنا ظننت أن هنا مثل الخارج، وماذا يعني لو وضعتم عليه جدران؟ هل أصبح أحسن من الخارج؟ ظننت أن هنا كهناك، كلها أرض الله، وكما أتبول في أي مكان تبولت في المسجد.
هذا جاهل أم لا؟ جاهل ما عنده علم، فلذلك تلطف الرسول عليه الصلاة والسلام معه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.