وكذلك وجد في الأمة من عبد غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس في كماله وشمائله وفضله، فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن الغلو فيه حتى لا يعبدوه، فامتثل الصحابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، ومضت خلوف وتوالت القرون، حتى رأينا الغلو في الرجال حائلاً دون وصول الحق إلى الناس، فغلت الصوفية أشد الغلو في مشايخهم، والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل يكون إلهاً عند بعضهم! وقد قال لي رجل برهاني، ولم يأتِ ببرهان على ما يقول: أنا شيخي في السودان، وهو يراني الآن ويرى ماذا أفعل.
ويتكلم بعقيدة، وقد حدث بيني وبينه مشادة، وإنما حدثت المشادة لما أظهرت له عوار شيوخهم، وهذه الطريقة سديدة: فإذا رأيت الرجل يكابر فافعل معه مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه) و (الهن): هو الذكر، (أعضوه بهن أبيه) والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي علم الناس الأخلاق، وعلمهم مكارم وشمائل الصفات والنعوت، هو الذي يقول لنا ذلك.
وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق -في حديث المسور بن مخرمة يقول لـ عروة بن مسعود الثقفي لما قال: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك- فقال له أبو بكر: أنحن نفر وندعه؟! أمصص ببظر اللات.
ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه.
وهذا يدل على أنه يجوز استعمال الغلظة لكن في موضعها.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى يعني: المكان الذي يستحق أن تضع فيه الكلمة الشديدة ضعها فإنها حكمة ورحمة، والرسول عليه الصلاة والسلام مرة قال لـ معاذ (ثكلتك أمك)، وهذا دعاء عليه، (ثكلتك أمك يا معاذ).
فيجوز أن نستخدم الشدة مع المكابر الذي علمت -بعد إقامة الحجة عليه، والرفق به- أنه لا يرجع، فإذا غلب على ظنك بهذه الضوابط أنه لا يرجع، اكشف له المغطى.
وأنا عندما تناقشت مع هذا الرجل كشفت له بعض الفضائح والمخازي التي ذكرها رجل من أعيان الصوفية، ولم أحك هذا عن أئمة السلف من العلماء، حتى لا يقال: كيف تروي مذمتي من عدوي؟ وإنما رويتها عن رجل من أشد المتعصبين للصوفية، وقد صنف هذا الكتاب -طبقات الشعراني- لإظهار كرامات الصوفية، فيذكر -مثلاً- في ترجمة واحد منهم يقول: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً) والذي يغيظني قوله: (رضي الله عنه).
كإنسان كان يقرأ في كتاب ويتعقب صاحب الكتاب، فقرأ عبارة فقال: أخطأ رحمه الله، وقرأ عبارة أخرى فقال: أخطأ رحمه الله، وجاء على عبارة لا تحتمل فقال: كفر رحمه الله فما لازم (رحمه الله)؟! وقد حكم عليه بالكفر؟! فيذكر صاحب الطبقات مصيبة من المصائب ويقول لك: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً، وكان رضي الله عنه يأتي البهائم) كل كبدة ومخ ضاني واقرأ الفاتحة للشعراني ولا يجوز عندهم مخالفة الشيخ ألبتة، وأعظم أبواب الحرمان -عندهم- أن تخالف الشيخ.
الاعتراض عند الصوفية هو الداء العضال الذي يلي الكفر بالله مباشرة، مع أن مخالفة الشيخ ليست من السبع الموبقات التي ذكرها لنا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الداء العضال عند الصوفية الذي لا تقال منه العثرة، ولا تقبل منه التوبة.
فمن أصولهم: أنك إذا رأيت الشيخ يفعل الشيء الحرام عندك -على ظاهر النصوص- فلا تعترض؟ لأن لديه مخارج.
فباب سد الذريعة عند الصوفية ليس له أي اعتبار على الإطلاق.
فوصل غلو هؤلاء في المشايخ إلى درجة أنهم جعلوا من أصول التربية عندهم: ترك الاعتراض على الشيخ حتى لو كان يفعل الحرام لاحتمال أن يكون له تأويل وأنت لا تدريه، حتى قرأت في كتبهم، قال: فلو رأيته يزاني بحليلة جاره فقل: لعله عقد عليها فهل يصح هذا الكلام؟! وعندهم لا يجوز اتهام الشيخ.
وذكروا قصة عجيبة: أن بعض المريدين تردد في صدره قذف للشيخ، فقال: فنظر الشيخ إليه، وقال له: قم فاغتسل واذكر الله.
اغتسل غسل ماذا؟ أي: أنه كفر، فيغتسل غسل الإسلام ويدخل في الإسلام.
قال: فاغتسل ورجع فقبل يديه، وقال: تبت ولا أعود.
فتصور المريد أن الشيخ يعلم الغيب وهذا يذكرني بأيام ما دخلنا الجيش، فكنا في معسكر المشاة، والمعسكر هذا لما ذهبنا إليه كانوا يقولون: المعسكر هذا وإسرائيل واحد؛ من شدته وشدة الضباط الذين يعلمون فيه، وكان هناك ضابط له كلمة معروفة، وبينما نقف في الطابور يقول: أنت الذي تحرك أصابعك في البيادة! ونحن خمسمائة واحد وقد يحرك أحدنا أصابعه داخل البيادة؟! فتصور الذي يحرك أصبعه في البيادة أن الضابط يعرف كل شيء.
وهذا ما يفعله الشيخ الصوفي مع المريد ومن أصول أهل السنة والجماعة: ألا نحكم على معين بجنة ولا نار؛ لأننا لا ندري بالخواتيم، وإذا قال رجل لرجل: لست مخلصاً؛ فقد أخطأ وارتكب جرماً لأن أعمال القلوب لا يعرفها إلا الله، والإخلاص محله القلب، فلا يحل لأحد أن يحكم على ما في القلب، وهي جريمة تقدح في التوحيد! والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل إله عند بعضهم، وهو إنسان لكن ما الذي رفعه إلى هذه المرتبة؟ إنه الغلو.
وسأترك مجالاً لذكر العجائب عند شيوخ الصوفية في الأصل الذي يقول: (ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرة المراء يورث الصدود) لأن الاعتراض يجب أحياناً، ويستحب أحياناً، ويباح أحياناً، ويكره ويحرم أحياناً، أي: أن الاعتراض تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والحرمة، والكراهة.