وسورة يوسف عليه السلام هي سورة الإحسان، ونحن سننظر كيف مكن ليوسف عليه السلام، يخطئ من يتصور أن التمكين أن تحوز الأرض من تحتك، ونحن نقول: إن التمكين في الأرض يسبقه تمكين آخر في غاية الأهمية هذا التمكين هو الذي أحرزه يوسف عليه السلام.
وانظر معي في قول الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] أين هو التمكين؟ قد استخرجوه من غيابة الجب، وبيع بثمن بخس دراهم معدودة، أعني أنه لا يظهر لنا أثر التمكين، ومع ذلك بمجرد أن بيع بهذه الدريهمات، ودخل قصر العزيز، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21].
أما التمكين فلأنه دخل قلب العزيز، هذا هو التمكين: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، هذا هو التمكين المهم الذي لا يتم التمكين للمسلم في الأرض إلا به.
إذا دخل المرء قلب إنسان استعبده، وصار ولده وماله، وصار هو نفسه مِلكاً لهذا الإنسان، وذلك لأن المرء كلف بمن يحب، ألم تر في سيرة المحبين إلى هذا المعنى الظاهر، وهو أن المرء إذا أحب كلف، وإذا كلف ذل، والمحبة والذل قرينان، كلما كنت في قاع الذل صرت على قمة الحب، فالمسألة لا تنفك، كلما زاد حبك زاد ذُلّك.
والشاعر المشهور في دواوين العاشقين وهو قيس، يقول في الأبيات التي طارت كل مطار لما فقد المرأة -ونسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم من داء العشق؛ لأنه داء قتال- قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا أحب الرجل حتى وصل إلى درجة الكلف، الرسول عليه الصلاة والسلام أحبه قومه قبل أن يأتي بدعوته، لذلك نحن نقول للدعاة إلى الله عز وجل، الذين أغفلوا هذا الجانب: لماذا تأخر التمكين حتى الآن؟ إذا أردت أن تمكن فأحسن، فإنك بالإحسان تسترق قلوب العباد.
وها هو يوسف عليه السلام يضرب به المثل، الله عز وجل جعل له مكاناً في قلب العزيز فأحبه، فهذا بداية التمكين أن تدخل قلوب الخلق، ونحن نعلم أن بعض الناس كفروا بسبب محبتهم للذين يدعونهم، أي: أنه لا يفكر، فقد وصلت به الثقة العمياء إلى أن يضع حياته بين يدي هذا الإنسان فأضله، فكما قلت: الحب داعية الاتباع، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
دخل يوسف عليه السلام قصر العزيز وبدأت المحن تتوالى عليه، وكانت محنة في غاية القوة تلك التي تعرض لها، ولكنه صبر عليها صبر النبلاء، لأن الصبر عن معصية الله عز وجل هو أرفع أنواع الصبر فيما يتعلق بالمكلف.
ولك أن تتأمل: داعي المعصية موجود، فيوسف عليه السلام كان غريباً، والغريب يفعل في دار الغربة ما يأنف أن يفعله الحاضر بين أهله وخلانه، هذا أول داع لأن يفعل المعصية، لأنه غير معروف.
ثم هو شاب أعزب فتي لم يتزوج ولم يتسر، وهذا أيضاً باعث على أن يقع في المعصية.
ثم هو مملوك، والمملوك لا إرادة له، وهو حريص على إرضاء مالكه، فهذا أيضاً داعي الوقوع في المعصية.
ثم المرأة جميلة، وهي الداعية إلى نفسها، وقد غلقت الأبواب، ومع ذلك يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] وتكرر لفظ الإحسان والمحسنين ومشتقات الإحسان في سورة يوسف كثيراً، بحيث إنك تستطيع أن تسميها (سورة الإحسان) لأنه يطهر فيها الإحسان جلياً.
أول موقف وقف فيه يوسف عليه السلام هو هذه المحنة القوية، ومع ذلك تجاوزها بهذا النبل، فأعلى الله عز وجل كعبه.
ماذا حدث بعد ذلك؟