نشر أحد الشعراء ديوان شعر ما رأيناه، لكن عرفناه عن طريق أحد الحمقى، فقد اختار بعض نماذج شعرية من هذا الديون لينشرها بين المسلمين، ويبشرهم برجل صاحب خيال شعري جديد، فكان مما ذكره في المختارات المنتقاة؛ هذه العبارة البتراء الشوهاء، التي قال فيها ذلك المارق: (الله في مدينتي ينام على الرصيف).
فأنكر عليه! فقال: لا.
الله هنا كناية عن الفضيلة، أنا أقصد أن العدالة والنزاهة والفضائل نائمة على الرصيف، بينما الرذائل تسكن الفنادق خمسة نجوم.
فنقول حسناً: لفظ الجلالة.
لو فتحنا أي قاموس لغوي فهل من مفرداته ما ذكره الرجل؟ الألفاظ قوالب المعاني، فإذا جاز لك أن تخترم اللفظ ذهب المعنى، وإن اخترمت المعنى لم يدل عليه اللفظ، إذاً: هذا لعب، وهذا اللعب يمكن أن يمتد إلى الدنيا كلها، كرجل -مثلاً- يسب رجلاً، ويأتي أمام القاضي: فيقول: لا.
بالعكس أنا مدحته، أنا قلت له: يا ابن السوداء، والسواد نصف الجمال، فأنا ما قصدت أن أذمه بل أمدحه.
فبهذا تضيع الدنيا، ولا يعرف الفرق بين المدح والذم ولا بين السب، وغير السب إذا جاز اللعب بالمعاني والألفاظ بهذه الطريقة.
ولفظ الجلالة لا يجوز استخدامه بهذه الصيغة إطلاقاً، لأنه علم على الذات الإلهية: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فلفظ الجلالة له خاصية، وهي: أنه الكلمة الوحيدة التي إن رفعت منها حرفاً لم يتغير معناها: (الله) ارفع الألف تكون (لله)، ارفع اللام تكون (له)، ترفع اللام تكون (هو)! وبالإضافة إلى ذلك هو اسم علم غير مشتق، وهذا هو أوجه الأقوال، وقول كثير من العلماء أنه مشتق من (أله) فهو (إله)، لكن هو اسم جامد على الذات الإلهية، والعلماء الذين ذهبوا هذا المذهب يقولون: (إن الذين قالوا بالاشتقاق قالوا: إن لفظ الجلالة الأصل (له أو لاه)، ثم أضيفت الألف واللام للتعظيم فصارت (الله).
فرد عليهم العلماء الآخرون وقالوا: لا.
الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، ولم تدخل للتعظيم.
ونحن إذا أردنا أن نفرق ما بين الألف واللام وهل هي أصلية أو غير أصلية ندخل عليها ياء النداء؛ فمثلاً: (الرحمن) هل تريد أن تعرف الألف واللام في الرحمن أصلية أو غير أصلية؟ تدخل عليها ياء النداء، إذاً: تكون (يا رحمن) ولابد أن تحذف الألف واللام، وهذا يدلنا على أن الألف واللام غير أصلية في الكلمة، وإنما دخلت للتعظيم.
وكذلك (الرحيم): يا رحيم، (الرجل): يا رجل وهكذا، فكل اسم محلى بالألف واللام وتريد أن تعرف الألف واللام أصلية في أصل الكلمة أو دخيلة للتعظيم أو للعلمية أو نحو ذلك، أدخل عليها ياء النداء، فإذا أدخلت ياء النداء على لفظ الجلالة تصير (يا الله)، لم تحذف الألف واللام، وهذا يدل على أن الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، وهذا يرجح قول من يقولون: إنه اسم جامد علم على الذات الإلهية وليس مشتقاً.
فلما يأتي رجل ويقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) ثم يأتي يقول لك: أن قصدي الكناية والاستعارة إلخ.
وهذا وهذا تجهيل للنص ورفع لدلالته، وفيه خرق متسع جداً في مسألة الاتباع، ونحن ينبغي أن نحول بين هؤلاء وبين ما يريدون.