لو أن الله عز وجل امتحنك ببلاء: مرض أو فقر، أو أي مصيبة من المصائب، وذكرت وحدتك عند دفنك، وأنك غريب، ولا أحد يشعر بك، ولا يتوجع لك، أعني: أن أهلك لا يعلمون أنك تتألم فيتصدقون عنك، ليتهم يعلمون أنك في كرب فيدعون لك؛ لكن شُغل الأولاد بالدنيا، فقليل من الأبناء الذين يترحمون على آبائهم، لاسيما إذا طال بهم العهد فجاوز ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة، فإنهم لا يلبثون أن ينسوهم، فليت أن مصاب الميت يصل إلى الأحياء حتى يترحموا عليه ويدعوا له.
ذات مرة في سنة واحد وثمانين حين كنا في السجن، كان معنا سجين من أسوان، والمسافة ما بين أسوان وما بين القاهرة ثماني عشرة ساعة بالقطار، وكان كل خمسة عشر يوماً في وقت الزيارة يأتي أهلنا إلينا بالطعام والشراب، فنطمئن عليهم ونراهم، ونأكل ونشرب معهم، أما هذا فطول مدة سجنه لم يأته أحد، فقلنا: إن هذا الرجل يعيش في كرب، أليس له أحد يسأل عنه؟ فتشعر حينها بغربة الرجل، ففي كل زيارة تنظر إليه فتراه مكتئباً، ويظل يومه ذاك في هذا الاكتئاب؛ لأنه لا أحد يتوجع لمصابه، ولا أحد يسأل عنه، ولا أحد يهتم به، فخطر لي هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، كحال من يؤتى به يوم القيامة فيدخل الجنة، بينما يقاد ابنه إلى النار ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً.
في مذابح البوسنة التي ارتكبها أهل الصليب ضد المسلمين، كانوا يأخذون الولد أمام أبيه، والولد يصرخ: يا أبي! أنقذني، يريدون أن يذبحوه، ولا يستطيع الوالد أن يفعل شيئاً، قلبه يتمزق وهو يرى الولد يستغيث به ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، بينما في الآخرة فلن يذبح الولد وإنما سيساق إلى النار، ولا يستطيع الوالد أن يفعل لابنه شيئاً، إذا خرج من رحمة أرحم الراحمين فمن يرحمه؟!! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة مائة جزءاً، فأنزل على الأرض جزءً واحداً -من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل الخلائق من إنس وجن، وحشرات وطيور، كل المخلوقات تتراحم بجزء واحد- حتى إن الدابة -أي: العجماء التي لا تعقل- لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه كل ذلك بجزء واحد من الرحمة، وادخر تسعةً وتسعين جزءاً لعباده الصالحين في القيامة) فإذا حرم المرء من تسعة وتسعين رحمة فيا له من شقي! يا له من شقي، هذا الذي لم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى!.
الزهد في الدنيا: القصد به زهد القلب، لو كانت الدنيا في يديك وزهد فيها قلبك لتركتها في لحظة، وإذا سلبت منك فلن تبكي عليها، وإنما ستفعل كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، نام في فراشه يوماً مسهد الطرف، لا يستطيع أن ينام، جفاه النوم، وامرأته إلى جانبه، فقالت: (ما لك؟ هل رابك منا شيء فنعتبك -تعني: هل ظهر منا ما يغضبك فنعتذر لك-؟ فقال لها: ِنعمَ حليلة المرء المسلم أنت -يعني: أنت نعم الزوجة، لا أشتكي منك- ولكن جاءني مال، ولا أدري ماذا أفعل به -لا يقول هذا إلا رجل خرجت الدنيا من قلبه إلى يده- فقالت: ادع أرحامك ففرقه فيهم.
قال: نعم الرأي.
فدعا أرحامه ففرَّق فيهم ثلاثمائة ألف درهم) (ثلث مليون) درهم، ولم تؤثر على الرجل أبداً، لماذا؟ لأنها ليست في قلبه، بل هي في يده، فالذي أعطاه ثلاثمائة ألف درهم سيخلف عليه أضعافاً مضاعفة، وعنده اعتقاد بهذا، وعنده قناعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، فالإنسان حين يعطي أرحامه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه).
فهان عليه ثلاثمائة ألف درهم، هذا هو الزهد الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام وربى أصحابه عليه.
كل أحاديث الزهد الموجودة في كتب السنن وكتب الصحاح، المقصود بها زهد القلب في الدنيا، فإذن لا تعارض، لكن إذا وجدنا الناس تكالبوا على الدنيا فمن العبث ومن الخطر ومن الخطأ أن نجر إليهم الزاد ونقول لهم: انطلقوا في الدنيا نحن نحتاج إلى الكادر المسلم هذا الرجل الذي تشجعه على الدنيا لا يخرج زكاة ماله، فكيف تقول: نريد التاجر المسلم، وهو لا يخرج ماله؟! هذا الإنسان ما أسلم بعد الإسلام المنجي.
كذلك الكلام عن الموت يرقق القلب، وكتب الرقائق وكتب الزهد كلها إنما تجر إلى هذا، وما زهد الزاهدون في الدنيا إلا لقصر عمرها وعظيم خطرها، قال صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله عز وجل طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير!) كيف يأكل الطعام الشهي، ثم انظر كيف يخرج هذا الطعام؟ كذلك الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا أينعت نعت، إذا أدبرت عن المرء سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه خلعت عليه محاسن غيره.
ويظهر هذا في حال كثير من الطغاة، نظرت في كتاب -أيام أن كان بيننا وبين العراق وفاق- وكان الكتاب يوزع مجاناً في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وكان عبارة عن صور للرئيس العراقي، وظهر في إحداها وهو يمسك يمسك المصحف ومكتوب تحتها: الرئيس المؤمن، وصورة له وهو يضع يده على الفرس مكتوب تحتها: فارس العرب وهكذا، فالكتاب كله صور، فهل هو فارس؟ هل هو مؤمن؟ هل هو بطل؟ هل هو مغوار؟ قد يكون فيه بعض ما في هذا الكتاب من الأوصاف، لكن ليس كلها، فلما أقبلت الدنيا عليه خلعوا عليه محاسن غيره، كل ما عرف من فضائل الناس جعلوها فيه وهي ليست كذلك، فلما خلعت منه الرئاسة وأصبح فأراً وصار مثل بقية خلق الله، ينظر إلى نفسه فلا يجد الصفات التي كانت تسبغ عليه، أقبلت عليه الدنيا فكانت فيه كل الصفات، فلما أدبرت عنه الدنيا فقد كل تلك الصفات، حتى الصفات الأصلية التي كانت فيه فقدها فلم يعد يوصف بها.
هكذا الدنيا: إذا أقبلت على إنسان خلعت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فعندما يعلم المرء أن هذه الحياة في القبر طويلة، مقارنة بالحياة التي سيقف أمام الله بها، والتي لا تتجاوز ثلاثين سنة، كما أن الذي يحكم عليه بالمؤبد -وهو ما يعادل خمسة وعشرين سنة- في السجن يفرج عنه بعد مضي هذه المدة، بينما من يسجن في هذا السجن الانفرادي -الذي هو القبر- لا يخرج منه إلا مع النفخ في الصور، ولا يعود إلى ملاعب صباه مرةً أخرى، ولا يلتقي بأولاده مرةً أخرى، ولا يعرف عن أحدٍ شيئاً قط، فإذا فصل الله عز وجل بين الناس فإنه لا يتعرَّف على أولاده إلا في الجنة إذا دخل الجنة، فهي رحلة طويلة جداً، هذه الرحلة الطويلة قبلها إعداد لمدة ثلاثين سنة فقط.
فلو قدرنا أن الإنسان يعيش ستين سنة، فإنه لا يؤاخذ عن الستين عاماً كلها، إنما يؤاخذ عن نصفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ) والإنسان في العادة هو ينام ست أو سبع ساعات في اليوم في ستين سنة، فيكون بذلك قد نام عشرين سنة، فهذه عشرون عاماً لا يؤاخذ فيها لأنه نائم، ثم لا يؤاخذ حتى يبلغ (وعن الصغير حتى يحتلم) فهذه عشر سنوات على الأقل تضاف إلى العشرين عاماً، فيبلغ مجموعها ثلاثين سنة، إذن ما بقي من الستين عاماً إلا نصفها -أي: ثلاثون عاماً- وهي التي يحاسب عليها المرء أمام الله عز وجل.