من خشع قلبه خشعت جوارحه

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

قال يحيى عليه السلام: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قلنا: إن التفات الجارحة دلالة على التفات القلب قبلها، وفي بعض الأخبار الضعيفة: (إن العبد إذا حوَّل وجهه في الصلاة عن القبلة يقول الله له: إلى خير مني؟!) فالله عز وجل ينصب وجهه في وجه العبد، (ما لم يلتفت) أي: إذا التفت صرف عنه وجهه، فإذا التفت إلى شيء آخر يقال له: إلى خير من الله تبارك وتعالى؟! وفي هذا دلالة أكيدة على اهتمام الشرع بأمر القلب، فبعض الناس يظهر عمل القلب -مع أن القلب هو الملك- ويظن أن عمل القلب غير داخل، لا، بل عمل القلب أشرف من عمل الجوارح، ولذلك إذا انعقد القلب على الكفر وإن لم تنفعل له الجوارح عوقب به، ولا يُعارض هذا بحديث: (إذا همَّ العبد بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة) فيظن أن العمل مقصور على عمل الجوارح، لكن هذا خطأ، بل القلب عمله أشرف من عمل الجوارح، لأنه الملك، فإذا انعقد القلب على شيء من الكفر يؤاخذ المرء به؛ لأن عقد القلب عمل.

فالعبد إذا عمل حسنة جوزي بعشر أمثالها، فهل إذا عمل سيئة فانصرف عنها يأخذ حسنة؟ المناسب أن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه إذا عمل سيئة استحق سيئة، فالطرف الأول: هو الذي عمل الحسنة وجوزي بعشر أمثالها، والطرف الثاني: هو الذي عمل السيئة فأخذ مثلها، وعلى هذا فيكون الوسط: أن لا يعمل شيئاً فلا يأخذ شيئاً، هذا هو المناسب.

وقد ورد التعليل في بعض الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل قال: (لو همَّ عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة؛ إنه تركها لأجلي) فالذي جعله يتركها هو قلبه وخشية الله عز وجل، فلم تنفعل الجوارح لذلك، إنما الذي جعله يتركها هو خوف الله، ويفهم بمفهوم المخالفة: أنه إذا تركها لغير مخافة الله فلا يأخذ حسنة، هذا إن لم يكن قد دخل في منطقة الإثم، ومثال ذلك: رجل أراد أن يسرق بيتاً فلم يستطع لكنه لا يزال مُصراً على السرقة وعقد قلبه على أن يسرق هذا البيت ولم يمنعه خوف الله عز وجل، إنما لم يتمكن، فهذا انعقد قلبه على هذا الفعل فيؤاخذ به.

فهذا لم يترك هذا العمل لأن السرقة حرام، أو لأن الفاحشة التي كان يريد أن يفعلها حرام، لا، إنما تركها للعجز، وهذا دليل أن القلب هو الأصل، والجارحة إنما تنفعل له سلباً وإيجاباً، وقد قلت من قبل: إن القلب هو الذي يعطي صورة العظمة.

إذا كنت واقفاً في الصلاة لمدة طويلة وخاشعاً ولا تتمنى أن تجلس ولا تشعر بملل ولا ضجر؛ فإن قلبك مقبل، أما إذا لدغتك بعوضة فأخذت تتملل فإن قلبك غير مقبل، وغير منتبه؛ لأن القلب هو الذي يعطي العزم للجارحة، وإذا أبدل القلب عنها ذهبت قوتها، فالقلب إذا أقبل ظهرت القوة في العضلة، فإذا أبدل القلب سحبت قوة العضلة معه.

فلو جئت إلى أقوى الناس جسماً، وأخبرته بخبر خارت له عزائمه فوقع على الأرض، فنقول: أين العضلة التي كانت تحمله منذ قليل؟ لما انكشف قلبك انكشفت العضلة، ولهذا عروة بن الزبير رحمة الله عليه؛ تابعي جليل كبير الشأن، لما انتشرت الأكلة في رجله ونصحه الأطباء بقطعها، قالوا له: (اشرب الخمر لنقطعها، فقال: ما كنت لأستعين على دفع البلاء بمعصية الله، ولكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها) وهذا خبر صحيح، وبعض الناس يكذب هذا الخبر؛ لأنه لم يتصور أن إقبال عروة على ربه في الصلاة كان إقبالاً كاملاً، لما دخل في الصلاة واستجمع قلبه سحب قوة العضلة وإحساسها، فلما قطعوا رجله بالمناشير لم يحس بها عروة.

فعمل القلب خطير، فنبي الله يحيى عليه السلام حين قال: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قصد به التفات القلب ثم التفات الجارحة تبعاً لذلك.

قال: (وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك وهو في عصابة) فهو يمشي مع رفقة ومعه صرة مسك والكل يشم المسك من على بعد، وكلهم يتمنى لو كان المسك معه، أو على الأقل يجد رائحة هذا المسك من الصرة.

(وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فخلوف فم الصائم كريه الرائحة، ومعنى هذا أنه ليس كل شيء يكرهه العبد يكون كذلك عند الله، إن الله عز وجل لام وعاتب بعض الصحابة في حديث الإفك حين نقلوا الخبر وتناقلوه، فقال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ألا تعلم أن آدم خرج من الجنة بذنب واحد، وأن إبليس دخل النار بذنب، فما يؤمنك؟ من الذي أعطاك صكاً بالأمان أن تمشي في هذه الدنيا وأنت غير خائف من سوء الخاتمة؟ سفيان الثوري رحمه الله لما هرب من الخليفة بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب آخر جوهري: هو أن سفيان كان يخشى أن يقربوه فيفتنوه فأمير المؤمنين في موسم الحج لما تذاكر هو وسفيان الثوري خلع خاتمه ورماه وقال: أعط هذا لـ أبي عبد الله وقل له ليحكم البلاد بالكتاب والسنة.

فجاء رجل إلى سفيان يقص عليه ما جرى فقال له: والله ما أخشى إهانته إنما أخشى إكرامه، فلا أرى سيئه سيئاً، ففر من الخليفة واختبأ منه عند يحيى بن سعيد القطان، تصور حين يجتمع في الزمن الواحد مئات العلماء من أمثال هؤلاء الكبار فعلاً، ما كان لمبتدع أن يرفع رأسه، أو أن يكتب مثل هذا الذي يكتب في الجرائد، وما كان لأحد أن يجرؤ على ذلك.

كان أحدهم يروي حديثاً موضوعاً فقال له الطلبة: (إن لم تتب لنبلغن عنك السلطان) فذهبوا إلى الأمير فوراً يشكونه لمجرد رواية حديث موضوع واحد، والأحاديث الموضوعة هي (زاد المستنقع) الكثير من الخطباء والوعاظ الذين يروون الأحاديث الموضوعة، حتى صارت مشتهرة ومعروفة عند الجماهير، ولو قلت لأي شخص: قل لي ما عندك من الأحاديث؟ تجد عنده (60%) من الأحاديث الموضوعة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم ينطق بها أبداً، إنما هي افتراءات كاذب.

فـ سفيان كان هارباً عند يحيى بن سعيد القطان في البيت، وكان رأسه في حجر يحيى بن سعيد القطان ورجله في حجر عبد الرحمن بن مهدي، وكانا من تلاميذه، ونحن نعرف قدر الأستاذ من قدر التلاميذ، والتلاميذ هم رزق من الله كسائر النعم، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رزقاً له، ولم يرزق نبي بأصحاب مثل أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام.

وابن حجر العسقلاني الحافظ رحمه الله يقول في كتاب الدرر الكامنة في ترجمة لكتاب ابن تيمية يقول للدلالة على إمامة هذا الإمام الكبير: (ولو لم يكن لهذا الإمام -أي من حسنة- إلا تلميذه ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف السعيدة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان كافياً)، مع أن سائر أصحاب شيخ الإسلام كانوا أئمة، وكان من أصغرهم الحافظ ابن عبد الهادي صاحب: الصارم المنكي في الرد على السبكي، ومات شاباً دون الأربعين رحمه الله، فلما حضرت سفيان الوفاة كان عنده عبد الرحمن بن مهدي فأخذته رعدة ونوبة بكاء فقال له عبد الرحمن: (يا أبا عبد الله! أتخشى ذنوبك فتناول سفيان -ذلك العابد الزاهد الأواب، فيما نحسب والله حسيبه- حفنة من على الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عليَّ من هذا، إنما أخشى سوء الخاتمة)؛ لأن الذنب قد يغفر لكن إذا ختم للإنسان بسوء ضاعت حسناته.

فما هذا الأمان الذي تتحرك به؟ كأنما كتب أنك من أصحاب الجنة فتمشي في الناس آمناً لا تخاف ذنباً؟ فتقبل على الذنوب وعلى أعمال قد تراها ليست من الذنوب، مثل حلق اللحية! وكثير من الناس يتساهلون في مسألة اللحية فإذا نبهته إلى ذلك قال: الإيمان في القلب، بينما الصحيح أن إطلاق اللحية واجب وحلقها حرام باتفاق العلماء، خالف في ذلك بعض المتأخرين، لكن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إن حلق اللحية حرام، فما يؤمنك أن يكون مثل هذا الذنب هو الذي يوردك؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ به ما بلغت، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، ثم لا يلقي لها بالاً) ولا يظن المسلم أن ربنا سبحانه وتعالى يؤاخذه بها (وإن العبد ليقول الكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات) فأنت لا تدري قد يكون الشيء في الدنيا مذموماً وهو عند الله ممدوح، فليس مقياس المسائل عند الله على ميزان الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فانظر المباينة بين أحكام الخلق وبين حكم رب الخلق تبارك وتعالى، إذا فتحت الباب ووجدته تغلق الباب دونه، وتزدريه بنظرك لكنه عند الله غال.

كالحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث ثابت، كان هناك صحابي اسمه زاهر، وكان جميل الوجه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً داخلاً السوق فرآه فأتاه من خلفه ووضع يديه على عينيه، وجعل ينادي في السوق: (من يشتري هذا العبد) فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن هذه اليد الناعمة -كما يقول أنس: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم- المباركة على عينيه وعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل لا يألو، أي: يجتهد في أن يلصق ظهره ببطن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذن يا رسول الله! تجدني كاسداً) -يعني: لو بعتني لما وجدت من يشتريني- قال له: (لا، ولكنك عند الله لست بكاسد) يا لها من بشا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015