إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حج فحججت، وعدل فعدلت فقضى حاجته، فصببت عليه من الإناء وهو يتوضأ.
فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ٌ) [التحريم:4] فقال: وا عجباً لك يا ابن عباس إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجارٌ لي من الأنصار، ينزل يوماً فيأتي بخبر الوحي، وما يكون من العلم فإذا نزلت أنا فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فطفقت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني.
قبل هذه الفقرة قال عمر رضي الله عنه: فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه اليوم حتى الليل؛ فأفزعني ذلك ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم إلى الليل، قالت: نعم، فقلت لها: ومن يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، لا تسأليه شيئاً ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني عائشة رضي الله عنها- أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فخرجت أجر ردائي، قلت: مالك، أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، قال عمر: فنزلت إلى حفصة فوجدتها تبكي فقلت لها: لم تبكين؟ أو لم أكن حذرتك -وفي بعض الروايات خارج الصحيحين قال عمر: والله لولاي لطلقك، ثم صلى عمر الغداة ثم دخل المسجد فإذا رهط حول المنبر يبكي بعضهم، قال: فجئت مشربة -المشربة مثل الحجرة لها باب على المسجد- وغلام للنبي صلى الله عليه وسلم واقف على باب الحجرة يمنع أي أحد من الدخول، قال: فجئت فقلت للغلام.
استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت عند المنبر، فجلست لكن غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فذهبت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، قال: فانتظرت، فبينما أنا عند الباب إذ ناداني، فقال لي: قد أذن لك، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: لا أجلس حتى يتبسم، أو قال: حتى أستأنس.
قال: فقلت: يا رسول الله، لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: فجلست، وجعل عمر رضي الله عنه يدير عينيه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاث -ثلاثة جلود- فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فجلس، وقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، فلما دخل عليها، قالت: يا رسول الله، إنك حلفت ألا تدخل علينا شهراً، وقد مضى تسع وعشرون أعدُّها عداً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون، -وفي رواية قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.
هذا الحديث يبين لك جانباً من حياة الصحابة وحياة النبي عليه الصلاة والسلام، الصحابة ليس لهم نظير أبداً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له).
لم يرزق نبي قط بأصحاب مثل نبينا، ولا جرم! فهو سيدهم، فالمناسب أن يرزقه أيضاً بأصحاب يناسب سيادته.
نحن نعرف كثيراً من الأنبياء، ونخص منهم أولي العزم: نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، تعرفون شيئاً عنهم أكثر من رسالاتهم؟ لا تكاد تسمع عنهم شيئاً، بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، نقلوا كل شيء حتى أدق المسائل.
كانوا ينظرون إليه مثل الكاميرات المسجلة، وباعث ذلك هو شدة الحب.
أحد الصحابة يقول: لأرقبن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، يريد أن ينظر إليه وهو يصلي، ماذا يفعل؟ حتى الشيء اليسير في الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فقرأ بسورة المؤمنين، فلما بلغ ذكر موسى وهارون أصابته سعلة فركع.
حتى مثل هذا ينقلونه، وكانوا يقولون: كنا نعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر باضطراب لحيته، عندما كان يسجد، كانوا ينظرون إلى أصابع اليدين والرجلين.
فنقلوا عنه كل حركاته وسكناته، ولم ينقل عن بقية الأنبياء عشر معشار ما نقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا الحديث إطلال على حياة الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.