فمسائل الأصول مسائل خطيرة (لا يستقيم الظل والعود أعوج).
مسألة أن يخالفك شخص في الأصول فيجوز لك أن تتبرأ منه؛ لكن إذا كان الخلافُ سائغاً فلا تقل: أنا بريءٌ منه وهو بريءٌ مني، ولذلك تبرأ عبد الله بن عمر من هؤلاء الذين كفروا بالله العظيم ونفَوا علمه القديم المتقدم على أفعال العباد، فقالوا: إن الأمر أنف -أي مُستأنَف- فقال عبد الله بن عمر: أنا بريء منهم وهم برآء مني.
ثم قال: (حدثني أبي) وكلما قرأت في الأسانيد (حدثني أبي) شعرتُ بمرارة، وشعرت بغصةٍ في حلقي وقلتُ: أين هؤلاء الآباء؟! رحم الله هؤلاء الآباء، كم واحداً في هذا المسجد يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن كذا فقال: كذا، فيما يتعلق بالشرع وبدين الله عز وجل؟! كم واحداً يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن المسألة الفلانية فأجابني بكذا؟! ضاع هذا النمط، والسبب أن الأجيال الماضية كلها عاشت في فترةٍ حالكة السواد بالنسبة لدين الله عز وجل، فترة كلها مؤامرات، فسخروا من هذه الأسانيد، وسموها (العنعنات) حتى مر على الناس زمان إذا وجدوا الإسناد فإنهم يتجاوزونه سريعاً ليصلوا إلى المتن، ما عندهم صبر على الإطلاق أن يقرءوا سنداً أو يقفوا على سند، ولذلك دخل علينا أعداؤنا وطعنوا في السنة بسبب جهلنا بهذا السند؛ لذلك رأيت أن أفشي هذا العلم وهذا الفضل في مثل هذا الجمع؛ أقرأ الإسناد، وأقف عليه، وأقف على بعض رجاله، وأظهر الصناعة الحديثية كلها أو بعضها حتى تعلموا هذا الجهد الهائل الذي بذله علماؤنا.
أنت الآن مستريح، معك صحيح مسلم، إلا أنك لا تعلم مدى الجهد الذي بذله مسلم رحمه الله حتى يجمع وينتقي، ولا تعلم التحري الذي بذله ليخرج لنا هذا الصحيح، فضلاً عن بقية العلماء الذين جمعوا ونقَّحوا للأمة المسلمة، ومع ذلك يا ضيعة جهود المحدثين عند من جاءوا بعدهم! فالعلماء الذين رووا لنا هذه الأسانيد يقولون: إن رواية الولد عن أبيه لها مزية، وعند الاختلاف يقدمون رواية الولد على غيره الولد فمثلاً سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر: أحياناً ترى الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع الذي يروي عن ابن عمر هو مولاه، فكان ملازماً له مثلاً بنسبة (90 %)؛ لكن سالماً يلازم أباه بنسبة (99 %)، أو (98 %) أو (97 %) المهم أنه أكثر ملازمة له من نافع، فإذا اختلف نافع وسالم في حديثٍ عن ابن عمر فإن العلماء كـ أحمد بن حنبل وغيره يرجحون سالماً في أبيه، يقولون: الولد أدرى بأبيه من غيره، وأضبط لحديثه من غيره، ومع ذلك فلم يختلف نافع وسالم إلا في أربعة أحاديث فقط، كان الصواب فيها كلها في قول سالم.
فأنت لما تقرأ: (حدثني أبي) تدركك الحرارة، وطبعاً: (حدثتني أمي) هذه لها متاهات، أتعرف (حدثتني أمي) هذه كانت مع من؟ مع الحسن البصري هو الذي يقول: (حدثتني أمي)، من النادر في الأسانيد أن يقول قائل: (حدثتني أمي)، هو موجودٌ نَعم؛ لكنه نادر، وهو موجود فيما يسمى بأسانيد النساء، فمثلاً عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة رضي الله عنها، ومعاذة العدوية أيضاً وحفصة بنت سيرين أيضاً، فهناك نساء كثيرات، ومن أراد أن يستزيد من أخبار النساء وروايتهن في الكتب الستة فعليه أن يطالع الجزء الخاص بهن في كتاب تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجاج المزي، أو في مختصره الذي هو كتاب تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، أو في مختصره الذي هو كتاب تذهيب التهذيب، للحافظ أبي عبد الله الذهبي فقد ذكروا فيه جمعاً من النساء اللاتي لهن رواية في الكتب الستة.
وكانت النساء أيضاً مهتمات بالحديث، فنحن عندنا مثلاً: أمة الله الحنبلية، لها مسند ونُشِر حديثاً، وكذلك بيبي بنت عبد الصمد الهرثمية لها جزء عن ابن أبي شريح عن شيوخه، وهذا أيضاً مروي في الأسانيد.
وأيضاً فأصح روايات صحيح البخاري رواية كريمة بنت أحمد المروزية كانت تروي صحيح البخاري، وكان إسنادها عالياً.
وكان أكابرُ العلماء يأتون إليها ليسمعوا منها.
فالحافظ ابن عساكر رحمه الله، صاحب التاريخ المشهور بتاريخ دمشق والذي طبع منه ستون مجلداً حتى الآن وربما يطبع في نحو مائة مجلد، وقد سكن دمشق، هذا الحافظ روى عن ثمانين امرأة ذكرهن من شيوخه.
والحافظ أبو عبد الله الذهبي تجاوزت شيخاته المائة، وكان منهن قرابة العشرين ممن تسمى (زينباً).
فلما تسمع هذا الكلام -وأنت رجلٌ محب لدين الله، وأنت رجلٌ حي الضمير- ترجع فتطلب العلم من جديد حتى تنقله إلى ابنك، فيكبر ابنك، ويقول: حدثني أبي، وسألت أبي، مثل أولاد أحمد بن حنبل رحمه الله، عبد الله وصالح، ومثل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وفي السلف علماء كثيرون لهم أولاد، كانوا يأخذون عنهم العلم، وهم الذين أفشوا علمهم ونشروه.
فيقول عبد الله بن عمر لما سمع هذه المقالة: (حدثني أبي) ومن فطنة المحدث أن يستحضر الحديث أو الآية التي تدل على الواقعة، أول ما يسمع نازلة من النوازل فيقول هذا الكلام.