فهذه المحاضرة إطلالة على الخطر الداهم الذي يدهم ديار المسلمين من أبنائهم، أو ممن ينتسبون إليهم بدعوى البحث العلمي، ودعوى الحياد العلمي الموجود الآن في مناهج الدراسات العليا ومناهج تحصيل الدكتوراه والماجستير في الجامعات، خرجت لنا دكاترة، وخرجت لنا من يدرس وعنده انتماء ضعيف لهذا الدين، سبب هذا الانتماء الضعيف هذه المناهج التي وضعت باسم الحياد العلمي.
إذا أراد رجل أن يكتب في مقارنة الأديان أو في المذاهب يقول له: لابد أن تتجرد من كونك مسلماً؛ لأنك إذا كتبت عن الفرق الأخرى، أو عن الديانات الأخرى، أو الشرائع الأخرى وأنت مسلم ستنحاز إلى دينك، وإلى مذهبك، فهذا يضللك عن الوصول إلى الحق بحياد، كيف تكون محايداً لا تكن منتمياً.
وظن البسطاء الذين وقفوا على عتبات طلب العلم أن هذا حق، وأنه ينبغي فعلاً أن يكون الإنسان محايداً، ويأتون بالأدلة العامة، العدل في الغضب والرضا، والعدل مع الخصوم ومع غير الخصوم، سبحان الله! أعداؤنا هل يتعاملون معنا بهذا الحياد؟! لا يتعاملون بهذا الحياد أبداً.
قيل للإمام أحمد: -وقد تكلم في بعض المبتدعة- هلا سكت؟! قال: وهل سكتوا حتى أسكت؟!! أي: ماداموا هم يتكلمون فأنا لا أسكت أبداً، والكلام في أهل البدع من أعظم الجهاد لاسيما في هذا الزمان، لاسيما إذا كانت البدعة قبيحة منتشرة، مع هذا الفقر المدقع الذي يعاني منه جماهير المسلمين، أعني: فقر العلم.
نشر الرجل الكتاب وكتب على آخره: حصل على بكالوريوس في الطب البيطري سنة كذا، وبعد ذلك عين فوراً معيداً، وموضوع فوق (فوراً) نقطتين، كأنه هو الذي أنقذ الحيوانات والبهائم! ها هو كل المعيدين يعينوا فوراً ما الإشكال؟ وضع (فوراً) بنقطتين حتى لا تفور، وبعد أن حضر الماجستير أخذ وعين مدرساً مساعداً، وحتى ترقى إلى حد أستاذ، وبعد ذلك رئيس قسم، وبعد ذلك رئيس لجنة السموم الثلاثية، وبعد ذلك رئيس قسم إلخ، أخذ نصف الصفحة في نياشين يشاركه فيها أي واحد وصل إلى درجة الأستاذية في الجامعة، لأنه يمر بهذه المراحل كلها.
لكن الناس عندهم اغترار بالألقاب والنياشين، فمثلاً: شخص يريد أن يكشف عن مرض في جسده، فيبحث عن دكتور، فيذهب لدكتور له اسم طويل عريض وتحته خمس سطور: زميل هيكل الجراحين وزميل مشارك وصديق , وخمسة سطور، فهذا هو الممتاز، يدخل هذا زميل الجراحين في كذا وكذا وكذا والأمر أسهل من هذا، لكن الناس أسرع لهذه النياشين والألقاب، ولا مانع من أن يكتب نصف الصفحة حتى وصل إلى اللجنة الثلاثية في السموم.
لكن ما هي المؤهلات الشرعية التي حصل عليها؟! أنت لا تتكلم الآن في الطب، أنت تتكلم في الشرع، فما هي مؤهلاتك في الشرع؟ دبلوم في القراءات من الأزهر الشريف! دكتوراه في الفلسفة! وأخذ في كلية الحقوق! كل هذا أيضاً على حسب النياشين العلمية لا تؤهلك أصلاً أن تتكلم في الشرع.
لكن كما قلت لكم الناس أسرع للنياشين، وهذا يذكرني بصاحب القط: يقال أن رجلاً كان له قط أراد بيعه، فجاءه رجل فقال: كم ثمن هذا القط؟ قال: كذا درهم، فتركه وجاء آخر فقال: كم ثمن هذا الهر؟ ثم تركه، وجاء ثالث فقال: كم قيمة هذا السنور؟ ثم تركه، وجاء رابع وخامس وكل واحد يذكر له اسماً ثم لا يشتريه، فرمى به وقال: قاتلك الله، ما أكثر أسماءك وأقل غناءك! أسماء كثيرة ونياشين بمقدار نصف صفحة كاملة، لكن ما أقل غناءها! هذه لا تعطيه علماً ولا أدباً عندما يتكلم عن أبي هريرة، يقول: أبو هريرة كان من المصائب التي ابتلي بها المسلمون، وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بحسن نية بلا شك! ولم يكن عنده فقه ولا دراية! لذلك كان ينقل الأحاديث التي تهدم الدين ولا يدري، إذ لو كان يدري ما رواها أصلاً، لمز أبا هريرة في أكثر من عشرين موضعاً في الكتاب.
أما الإمام البخاري فمسح به الأرض، قال: إن البخاري رجل طيب، (يعني: مغفلاً) ينقل الأحاديث؛ لكن لم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري! يعني: لو جاء رجل وقال سيبويه والكسائي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد والأخفش الصغير والكبير لا يعرفون أن الفاعل مرفوع بالضمة لرجموه بالحجارة، سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع بالضمة! عندما يقول للبخاري: الرجل طيب، أي: المغفل، ولم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري الذي وضع أصول هذا العلم مع العلماء الجهابذة الكبار لم يكن له دراية! تصور عندما يمشي الكتاب كله على هذه الوتيرة! وتكلم عن الصحابة والتابعين كلاماً سخيفاً جداً، كل هذا بدعوى الحياد العلمي ومنهجية: لا نجامل أحداً أصلاً، الكل أمام الحق سواء، بدءاً من أبي بكر إلى آخر شخص، نعاملهم على أساس أن الدماء متكافئة، ومشى بهذه الصورة في الكتاب كله، وسنعرض بعض النماذج، وأنا اتخذت هذا العرض صورة لتجسيد المحنة التي نعيشها الآن، ثم كيف الخلاص من هذه المحنة؟!